[فصل: الاحتذاء والأخذ والسرقة الشعرية عند الشعراء]
واعلمْ أنَّ الاحتذاءَ عند الشعراءِ وأهلِ العلمِ بالشِّعر، وتقديرَه وتمييزَه، أَنْ يبتدِىءَ الشاعرُ في معنًى له وغرضٍ أسلوباً - والأسلوبُ الضْربُ من النْظم والطريقةُ فيه - فيعمَدَ شاعرٌ آخَر إلى ذلك الأسلوب، فجيءَ بهِ في شِعره، فيُشبَّه بمن يقْطَع من أَديمه نعْلاً على مثال نعْلٍ قد قطَعها صاحِبُها، فيقال قد احتذى علم مِثاله، وذلك مثلُ أن الفرزدقَ قال [من الطويل]:
أَتَرجُو رُبَيْعُ أنْ تَجيءَ صِغارُها ... بِخَيرٍ وقد أَعْيَا رُبَيْعاً كِبارُها؟
واحتذاه البَعِيث فقال [من الطويل]:
أَترجُو كُلَيْبٌ أنْ يَجيء حديثُها ... بَخير وقد أَعْيَا كُلَيْباً قَدِيمُها؟
وقالوا إنَّ الفرزدق لمَّا سمِعَ هذا البيت قال [من الوافر]:
إذا ما قلتُ قافيةً شَروداً ... تَنَحَّلهَا ابنُ حمراءِ العِجَانِ
ومثلُ ذلك أَنَّ البعيثَ قال في هذه القصيدة [من الطويل]:
كليبٌ لئامٌ الناسِ قد يَعْلَمُونَهُ ... وأنتَ إذا عُدَّت كُلَيبٌ لَئيِمُها
وقال البحتري [من الطويل]:
بَنُو هاشمٍ في كلِّّ شرقٍ ومَغْربٍ ... كرامُ بني الدنيا وأنتَ كَريمُها
وحكى العسكريُّ في صنعة الشَّعر أنَّ ابنَ الروميِّ قال: قال لي البحتريُ: قولُ أبي نواس [من الطويل]:
ولم أَدْرِ مَنْ هُمْ غيرَ ما شهِدَتْ لَهُمْ ... بِشَرقِيِّ ساباطَ الديارُ البَسَابِسُ
مأخوذٌ من قول أبي خراش (الهذلي) [من الطويل]:
ولم أَدْرِ مَنْ أَلْقى عليه رداءه ... سِوى أَنه قد سُلَّ من ماجدٍ مَحْضِ
قال: فقلتُ قد اختلفَ المعنى. فقال: أَمَا تَرى حَذْوَ الكلامِ حَذْواً واحداً؟. وهذا الذي كتبتُ من حَلِيٌ الأخْذِ في الحَذْو. ومما هو في حَدِّ الخفيِّ قول البحتري [من الطويل]:
ولن يَنْقُلَ الحسَّادُ مجْدَكَ بعْدَما ... تمكَّنَ رَضوى واطمأَنَّ مُتَالِعُ
وقولُ أبي تمام [من الكامل]:
ولقد جَهَدتُمْ أَنْ تُزِيلوا عِزَّهُ ... فإذا أَبانٌ قد رَسَا وَيَلْمَمُ
قد احتذى كلُّ واحدٍ منهما على قولِ الفرزدق [من الكامل]:
فادْفَعْ بِكفْكَ إنْ أردُتَ بِناءَنا ... ثهلانَ ذا الهضَباتِ هَل يتحْلَحَلُ