للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأعلمْ أنك إذا نظرتَ وجدْتَ مَثلَهم مثَلَ مَنْ يرَى خيَالَ الشيءِ فَيحْسبُهُ الشيءَ، وذاك أَنهم قد اعتمدُوا في كلِّ أمرهم على النسق الذي يَرونه في الألفاظِ وجعَلوا لا يحَفِلون بغيره، ولا يُعَوِّلون في الفصاحة والبلاغةِ على شيءٍ سواه، حتى انتَهَوْا إلى أنْ زَعَموا أنَّ مَن عَمَد إلى شعرٍ فصيح فقرأه ونطقَ بألفاظهِ على النسَقِ الذي وضعَها الشاعرُ عليه، كان قد أتى بمثْلِ ما أتى به الشاعرُ في فصاحَته وبلاغَته. إلاَّ أَنهم زعَموا أنه يكونُ في إتْيانه بهِ مُحْتذياً لا مُبْتدئاً. ونحن إذا تأَملْنا وجَدْنا الذي يكونُ في الألفاظِ من تقديمِ شيءٍ منها على شيءٍ، إنما يقَعُ في النفس أَنَه نَسَقٌ إذا اعتبَرْنا ما تُوخِّي من معاني النحو في معانيها، فأمَّا مَع تَرْكِ اعتبارِ ذلك، فلا يَقَعُ ولا يُتصوَّرُ بحالٍ. أفلا تَرى أَنَّكَ لو فرَضْتَ في قوله:

قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ

أنْ لا يكونَ "نبْكِ" جواباً للأمر، ولا يكونَ مُعدَّى بـ (مِن) إلى"ذِكْرى"، ولا يكونَ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيب"، ولا يكونَ "منزلِ" معطوفاً بـ "الواو" على "حبيب"، لخَرَجَ ما تَرى فيه مِنَ التقديم والتأخيرِ عن أن يكون نَسَقاً؟ ذاك لأنه إنما يكونُ تقديمُ الشيءِ على الشيءِ نَسَقاً وتَرتيباً، إذا كان ذلكَ التقديمُ قد كان لِمُوجِبٍ أوْجَبَ أنْ يقدَّم هذا ويؤخَّر ذاك. فأَمَّا أنْ يكونَ مع عدم الموجِبِ نسَقاً فمحال، لأنه لو كان يكونُ تقديمُ اللفظِ على اللفظِ، مِنْ غَيْر أنْ يكونَ له مُوْجِبٌ نَسقاً، لكان يَنبغي أن يكونَ توالي الألفاظِ في النطق على أَيِّ وجْهٍ كان، نَسَقاً، حتى إنك لو قلْتَ: (نبْك قِفا حبيب ذكرى من): لم تَكنْ قد أعدَمْتَه النسَقَ والنظْم، وإنما أعدَمْتَه الوزْنَ فقط، وقد تقدَم هذا فيما مضى. ولكنَّا أعَدْناه هاهنا لأنَّ الذي أَخَذْنا فيه من إسلام القوم أَنفُسِهم إلى القليدِ، اقْتَضى إعادَتَه.

<<  <   >  >>