وجملةُ الأمر أَنهم لا يَجْعلون الشاعرَ مُحْتذِياً إلاَّ بما يَجْعلونه بهِ آخِذاً ومسْتَرِقاً، قال ذو الرُّمَّة [من الوافر]:
وشعرٍ قد أَرِقْتُ له غريبٍ ... أُجَنّبُهُ المُسانَد والمُحَالا
فبتُّ أُقِيمُهُ وأَقَدُ مِنْهُ ... قوافي لا أُريد لها مِثَالا
قال: يقول: لا أَحْذوها على شيءٍ سمِعْتُه "فأَمَّا أنْ يُجْعَل إنشادُ الشعرِ وقراءتُه احتذاءً فَما لا يعْلَمونَه؛ كيف وإذا عَمَد عامِدٌ إلى بيتِ شعرٍ فوضَعَ مكانَ كلِّ لفظةٍ لفْظاً في معناه، كمِثْلِ أنْ يقولَ في قولِه:
لم يَجْعلوا ذلكَ احذاءً ولم يُؤهِّلوا صاحِبَه لأن يُسَمُّوه مُحْتذِياً، ولكنْ يُسمُّونَ هذا الصنيعَ سَلْخاً ويُرَاذِّلونَه ويسخّفونَ المتعاطيَ له. فمِنْ أينَ يجوزُ لنا أن نقولَ في صبيٍّ يقرأ قصيدة امرىءِ القيس إنه احتذاهُ في قوله [من الطويل]:
فقلت له لمَّا تمطَّى بصُلْبِه ... وأَردفَ أعجازاً وناء بكَلْكلِ
الاحتجاج بالاحتذاء والتحدي على أن الفصاحة بحسب المعنى
والعَجَبُ مِن أنهم لم يَنْظروا فيَعْلَموا أَنه لو كان مُنْشِد الشعرِ مُحْتذياً، لكانَ يكونُ قائلَ شعرٍ، كما أنَّ الذي يحَذُوا النْعلَ بالنعل يكون قاطِعَ نِعْلِ، وهذا تقريرٌ يَصْلُح لأن يُحفَظَ للمُناظَرَة - ينبغي أن يقالَ لمن يَزْعمُ أنَّ المنْشِدَ، إذا أَنشدَ شعرَ أمرىءِ القيس كان قد أتى بِمثْلهِ على سبيلِ الاحْتِذاء: أخبرنا عنكَ: لماذا زعَمْتَ أنَّ المنشِدَ قد أَتى بمثْلِ ما قالَه امرؤُ القيس؟ أَلأَنَّه نطَقَ بأَنفُسِ الألفاظ الت ينطق بها؟ أَمْ لأَنه راعى النَسَق الذي راعاه في النطقِ بها؟ فإن قلت: إنَّ ذلكَ لأَنه نطَق بأَنفُسِ الألفاظِ التي نطَقَ بها: أَحَلْتَ، لأنه إنما يَصِحُّ أن يقالَ في الثاني إنه أتى بِمثْلِ ما أتى به الأوَّلُ إذا كان الأوَّلُ قد سَبقَ إلى شيءٍ فأحْدَثهَ ابتداء، وذلك في الأَلفاظِ مُحال؛ إذْ ليس يُمكِنُ أنْ يُقال إنه لم يَنْطِقْ بهذه الألفاظِ التي هي في قوله،