للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس اللفظ السليمُ من ذلك بِمُعْوِزٍ، ولا بعزيزِ الوجود، ولا بالشيء لا يَستطيعُه إلاَّ الشاعرُ المُفْلِق والخطيبُ البليغ، فيستقيمَ قياسُه على السجعِ والتجنيس ونحو ذلك، مما إذا رامَه المتكلمُ، صَعُبَ عليه تصحيحُ المعاني وتأدية الأغراض. فقولُنا: أطالَ اللهُ بقاءك، وأدامَ عزَّك، وأَتمَّ نِعمتَهُ عليك، وزاد في إحسانه عندَكَ: لفْظٌ سليم مما يَكُدُّ اللسانَ، وليس في حروفه استكراهُ. وهكذا حالُ كلام الناس في كُتُبهم ومحاوراتهم، لا تكادُ تَجد فيه هذا الاستكراهَ، لأنه إنما هو شيء يَعْرِضُ للشاعر إذا تكلَّف وتَعمَّل. فأمَّا المُرْسِلُ نفْسَه على سجيتها فلا يَعْرض له ذلكَ.

وهذا - والمتعلِّلُ بمثل ما ذكرتُ، من أَنه يكون تلاؤمُ الحروف مُعْجزاً، بعد أن يكون اللفظ دالاً، لأن مراعاةَ التعادل إنما تَصْعبُ إذا احتيجَ مع مراعاة المعاني - إذا تأملَت - يَذْهب إلى شيء ظريفٍ، وهو أن يُصْعُبَ مَرامُ اللفظِ بسببِ المعنى، وذلك محال؛ لأن الذي يَعْرفُه العقلاءُ عكْسُ ذلك، وهو أَن يصْعُبَ مرامُ المعنى بسبب اللفظ؛ فصعوبةُ ما صَعُبَ من السجع، هي صعوبةٌ عرضَتْ في المعاني من أجل الألفاظ؛ وذاك أنه صعُبَ عليك أن تُوفِّقَ بين معاني تلك الأَلفاظِ المسجَّعةِ، وبين معاني الفُصول التي جُعِلَتْ أردافاً لها، فلم تَسْتطعْ ذلك إلاَّ بعد أن عَدلْتَ عن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ، أوْ دخلْتَ في ضرْبٍ من المجاز، أو أخذْتَ في نوعٍ من الاتِّساع، وبعد أن تَلطَّفْتَ على الجملة ضَرباً من التلطف. وكيف يُتَصوَّرُ أن يَصعُبَ مرامُ اللفظِ بسببِ المعنى، وأنتَ إن أردْتَ الحقَّ، لا تَطْلبُ اللفظَ بحالٍ وإنما تَطْلبُ المعنى؛ وإذا ظفِرْتَ بالمعنى فاللفظُ معك وإزاءَ ناظرِك؟ وإنما كان يُتَصوَّرُ أن يصْعُبَ مَرامُ اللفظِ من أجل المعنى، أنْ لو كنتَ إذا طلبْتَ المعنى فحصَّلْتَه، احتجْتَ إلى أن تَطْلبَ اللفظَ على حِدَة، وذلك محال.

<<  <   >  >>