هذا ما ينبغي للعاقل أن يَجْعلَه على ذُكْرٍ منه أَبداً، وأَنْ يعلم أَنْ ليس لنا، إذا نحن تَكلِّمْنَا في البلاغةِ والفصاحةِ معَ معاني الكلم المفردةِ، شغلٌ ولا هي منَّا بسبيل، وإنما نَعْمَد إلى الأحكام التي تَحْدُثُ بالتأليف والتركيب. وإذْ قد عرَفْتَ مكانَ هذه المزيةِ، والمبالغةَ التي لا تزال تَسْمع بها، وأَنها في الإثباتِ دون المُثْبَتِ، فإنَّ لها في كل واحدٍ من هذه الأجناس سبباً وعلَّة. أما الكنايةُ فإنَّ السببَ في أنْ كان للإثباتِ بها مزيةٌ، لا تكونُ للتصريح، أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلمُ - إذا رجعَ إلى نفسه - أَنَّ إثباتَ الصفةِ بإثباتِ دَليلِها، وإيجابها بما هُو شاهِدٌ في وجودها، آكَد وأَبْلَغُ في الدعوة من أن تَجيءَ إليها فَتُثْبتهَا هكذا ساذَجاً غُفْلاً .. وذلك أنَّكَ لا تدَّعي شاهدَ الصفةِ ودليلهَا، إلاَّ والأَمرُ ظاهرٌ معروفٌ، وبحيث لا يُشَكُّ فيه، ولاَ يُظَنُّ بالمُخْبر التجوُّزُ والغَلَطُ.
وأما الاستعارة، فسبَبُ ما تَرى لها من المزية والفخامةِ أَنَّك إذا قُلْتَ:"رأيتُ أسداً" كنتَ قد تلطَّفْتَ لما أَردْتَ إثباتَه له من فَرْط الشجاعة، حتى جعلْتَها كالشيء الذي يَجبُ له الثبوتُ والحصولُ، وكالأمرُ الذي نُصِبَ له دليلٌ يَقطع بوجوده. وذلك أَنه إذا كان أَسداً، فواجبٌ أن تكون له تلك الشجاعةُ العظيمة، وكالمستحيل أو الممتنع أن يَعْرى عنها، وإذا صرَّحتَ بالتشبيه فقلتَ:"رأيت رجلاً كالأسد"، كنتَ قد أَثبتَّها إثباتَ الشيء يترجَّحُ بين أن يكونَ، وبين أن لا يكونَ، ولم يكن مِنْ حديث الوجوب في شيء.
وحكْمُ التمثيلِ حكْمُ الاستعارة، سواء. فإنَّك إذا قلتَ:"أَراكَ تُقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى"، فأَوجَبْتَ له الصورةَ التي يُقْطَعُ معها بالتحيُّر والتردُّدِ، كان أبلغَ لا محالةَ، من أن تجريَ على الظاهر، فتقول: قد جَعْلتَ تتردَّدُ في أمرِك؛ فأنتَ كمَنْ يقول: أَخْرجُ ولا أخرج، فيُقدِّم رجْلاً ويؤُخِّر أخرى.