للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وذلك أنَّ مِن شأنِ المادِح، أنْ يَمْنعَ السامعين من الشك فيما يَمدح به يُباعِدُهم مِن الشُّبهة، وكذلك المفتخِرُ: ويَزيدُكَ بَياناً أَنه، إذا كان الفعلُ مما لا شَكٌّ فيه ولا يُنْكَر بحالٍ، لم يَكَدْ يجيءُ على هذا الوجه، ولكنْ يُؤتى به غيرَ مبنيٍّ على اسمٍ. فإذا أَخبرْتَ بالخروج مثلاً، عن رَجلٍ من عادته أَنْ يَخْرج في كل غداة قلتَ: (قد خرجَ). ولم تَحتَجْ إلى أن تقول: هو قد خرَجَ، ذاك لأنه ليس بشيء يَشُكُّ فيه السامعُ فتحتاجُ أن تُحقِّقه، وإلى أن تُقدِّم فيه ذكْرَ المحدَّثِ عنه. وكذلك إذا علمَ السامعُ من حالِ رجلٍ، أنه على نيَّة الركوبِ والمضيِّ إلى موضع، ولم يكن شَكٌّ وتردُّدٌ أنه يَرْكَب أو لا يَركَبُ، كان خَبَّركَ فيه أن تقول: (قد رَكِبَ). ولا تقول: هو قد ركبَ. فإن جئتَ بمثل هذا في صلة كلامٍ ووضعْتَه بَعْدَ (واو الحال) حسُنَ حينئذٍ. وذلك قولُك: (جئتُه وهو قد ركبَ). وذاك أنَّ الحكْم يتغيرُ إذا صارتِ الجملةُ في مثْل هذا المَوْضع، ويصيرُ الأمرُ بمعرضِ الشكِّ، وذاك أنه إنما يَقولُ هذا، مَنْ ظَنَّ أنه يصادِفُه في منزله، وأن يَصل إليه مِنْ قَبْل أنْ يَرْكَب. فإن قُلْتَ، فإنكَ قد تقولُ: (جئتُه وقد رَكبَ)، بهذا المعنى ومع هذا الشكِّ، فإنَّ الشكَّ لا يَقْوى حينئذٍ قوَّتَه في الوجه الأول. أَفلا تَرى أَنكَ إذا استبطأْتَ إنساناً فقلْتَ: (أتانا والشمسُ قد طلعَتْ)، كان ذلك أبلغَ، في استبطائكَ له، من أن تقول: (أتانا وقد طلعتِ الشمسُ). وعكسُ هذا أَنكَ إذا قلتَ: (أتَى والشمسُ لم تَطْلعْ). كان أقوى، في وصفك له بالعَجَلة والمَجيء، قَبْل الوقتِ الذي ظُنَّ أنه يَجيءُ فيه، من أن تقول: (أَتى ولم تَطْلع الشمسُ بعدُ). هذا وهو كلامٌ لا يكاد يَجيءُ إلاَّ نابياً؛ وإنما الكلامُ البليغُ هو أن تبدأ بالاسم وتَبْنيَ الفعلَ عليه، كقوله:

قد أعْتدي والطيرُ لم تَكَلَّمِ

فإذا كان الفعلُ، فيما بعْدَ هذهِ "الواوِ" التي يُراد بها الحالُ مضارِعاً، لم يَصْلحُ إلا مبنياً على اسم، كقولك: (رأيتُه وهو يكْتُبُ)، و (دخلْتُ عليه وهو يُمْلي الحديثَ)، وكقوله [من الطويل]:

<<  <   >  >>