للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإذا ثبتَ الفرقُ بين الشيئين في مواضعَ كثيرةٍ، وظهرَ الأمرُ بأَنْ تَرى أحدَهما لا يصْلُح في موضعِ صاحبهِ، وجَبَ أن تقضيَ بثُبوتِ الفرقِ، حيثُ تَرى أَحدَهما قد صلُحَ في مكان الآخَرِ، وتَعْلَم أنَّ المعنى مع أحدهما، غَيرُهُ مع الآخر، كما هو العبرةُ في حَمْل الخَفيِّ على الجليِّ؛ وينعكس لك هذا الحكم. أَعني أنك كما وجدْتَ الاسمَ يقَعُ حيثُ لا يَصلُح الفعلُ مكانه، كذلك تَجدُ الفِعْلَ يقع ثُم لا يَصلُحُ الاسمُ مكانَه، ولا يؤدي ما كان يؤديه.

فمن البَيِّنِ في ذلك قولُ الأعشَى [من الطويل]:

لعَمْري لقد لاحتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفاع تَحَرَّقُ

تُشَبُّ لِمَقْرورَين يَصْطَليانِها ... وباتَ على النارِ النَّدى والمُحَلَّقُ

مَعْلومٌ أنه لو قيل: (إلى ضوء نارٍ مُتَحَرِّقة) لَنَبا عنه الطبْعُ وأنكرَتْه النفسُ، ثم لا يكونُ ذاك النبوُّ وذاك الإنكارُ من أجل القافية، وأنها تُفْسَد به، بل من جهةِ أنه لا يُشْبِهُ الغرَضَ ولا يليقُ بالحال.

وكذلك قولُه [من الكامل]:

أوَ كلما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةُ ... بَعثُوا إلىَّ عَريفَهُم يَتَوَسَّمَ

وذاك لأنَّ المعنى في بيت الأعشى على أن هناك مُوقِداً يتجدَّدُ منه الإلهابُ والإشعالُ حالاً فحالاً. وإذا قيل (متحرِّقة) كان المعنى أنَّ هناك ناراً قد ثَبُتتْ لها، وفيها هذه الصفة، وجرَى مَجْرى أن يقال: (إلى ضوءِ نارٍ عظيمة)، في أنه لا يفيد فعلاً يفعل. وكذلك الحال في قوله: (بَعثوا إليَّ عريفهم يتوسَّمُ). وذلك لأن المعنى على توسُّم وتأملٍ ونظرٍ يتجدَّد من العَريف هناك، حالاً فحالاً، وتصفُّحٌ منه للوجوه واحداً بعدً واحدٍ. ولو قيل: (بَعثوا إليَّ عريفَهم متوسِّماً)، لم يُفد ذلك حقَّ الإفادة، ومن ذلك قولُه تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والأرض} [فاطر: ٣] لو قيل: (هل من خالقٍ غيرُ اللهِ رازقٌ لكم). لكان المعنى غيرَ ما أُريدَ.

<<  <   >  >>