للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

* (وضربٌ آخر) من الاستدلال في إبطال أن يكون: (أنت الشجاع): بمعنى أنكَ كأنكَ جميعُ الشجعان على حد "أنتَ الخلْقُ كلُّهم" وهو أنك في قولك: (أنتَ الخلقُ، وأنتَ الناسُ كلُّهم، وقد جُمِعَ العالَم منك في واحدٍ): تدَّعي له جميعَ المعاني الشريفةِ المتفرقةِ في الناسِ، من غير أن تُبْطِل تلك المعاني وتَنْفيها عن الناس، بل على أن تَدَّعي له أمْثالَها، ألا ترى أنك إذا قلتَ في الرجل: إنه مَعْدودٌ بألف رجل، فلستَ تَعْني أنه معدودٌ بألف رجلٍ لا مَعْنى فيهم ولا فضيلةَ لهم بوجْهٍ! بل تُريد أن تُعطِيَه من معاني الشجاعةِ أو العِلْمِ أو كذا أو كذا، مجموعاً مَّا لا تَجِدُ مقدارَه مفرَّقاً إلا في ألفِ رجل. وأمَّا في نحو "أنتَ الشجاعُ" فإنك تدَّعي له أنه قد انفردَ بحقيقةِ الشجاعةِ، وأنه قد أُوتي فيها مزيَّةً وخاصيَّةً لم يُؤْتَها أَحدٌ، حتى صار الذي كان يَعدُّه الناسُ شجاعةً غير شجاعة، وحتى كأَنَّ كلَّ إقدام إحجامٌ، وكلَّ قوةٍ عُرِفَتْ في الحرب ضَعْفٌ، وعلى ذلك قالوا: (جادَ حتى بَخَلَ كلَّ جواد، وحتى منَعَ أن يَسْتحِقَّ اسمَ الجوادِ أحَدٌ). كما قال [من الوافر]:

وإنَّكَ لا تَجود عَلَى جوادٍ ... هِباتُكَ أنْ يُلَقَّبَ بالجوادِ

وكما يقال: جادَ حتى كأن لم يُعْرَف لأحدٍ جودٌ وحتى كأن قد كَذَّبَ الواصفون الغيثَ بالجود. كما قال [من البسيط]:

أعطيتَ حتى تَركْتَ الريحَ حاسِرةً ... وَجُدْتَ حتى كأنَّ الغَيْثَ لم يَجُدِ

<<  <   >  >>