واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا العُرفَ والعادةَ، وما يَهْجسُ في الضمير، وما عليه العامَّةُ، أرانا ذلكَ أنَّ الصوابَ معهم، وأنَّ التعويلَ ينبغي أن يكون على المعنى، وأنَّه الذي لا يَسوغُ القولَ بخلافه، فإنَّ الأمرَ بالضدِّ إذا جئْنا إلى الحقائقِ وإلى ما عليه المحصِّلون، لأنَّا لا نَرى متقدِّماً في علم البلاغة، مبرِّزاً في شأوها، إلاَّ وهو يُنْكِرُ هذا الرأي وَيعيبُه ويُزْري على القائل به، وَيَغْضُّ منه. ومن ذلك ما رُويَ عن البحتري. رُويَ أن عُبَيْدَ الله بنَ عبدِ الله بن طاهرٍ سألَه عن مُسْلم وأبي نُوَاس، أيُّهما أشعر؟ فقال: أبو نُوَاس! فقال إنَّ أبا العباس ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من شأنَ ثَعْلَب وذويه مِن المتعاطين لعلم الشعر دُون عَمله، إنما يَعْلَمُ ذلك مَنْ دُفِع في سَلْكِ طريقِ الشعر إلى مُضَايِقه وانتهى إلى ضَروراته. وعن بعضِهم أنه قال: رآني البحتري ومعي دفتر شعر، فقال ما هذا؟ فقلتُ شعرَ الشنفرى، فقال: وإلى أينَ تَمْضي؟ فقلتُ: إلى أبي العباس أقرأه عليه، فقال: قد رأيتُ أَبا عبَّاسِكم هذا منذ أيامٍ، عند ابن ثَوَابة فما رأيتُه ناقداً للشعر، ولا مميزاً للألفاظ، ورأيتُه يَستجيد شيئاً ويُنشِدُه، وما هو بأَفضَلِ الشعر، فقلت له: أمَّا نَقْدُه وتَمييزُه فهذه صناعة أخرى، ولكنَّه أعرفُ الناس بإعرابه وغَريبهِ فما كان يُنشد؟ قال: قولَ الحارثِ بن وَعْلَة [من الكامل]:
قَومي هُمُ قَتلُوا، أُمَيمَ، أَخي ... فإذا رَمَيْتُ يُصِيبني سَهْمي
فقلتُ: واللهِ ما أَنْشَد إلاَّ أحْسَن شَعرٍ في أحسنِ معنًى ولفظٍ: فقال: أَين الشعرُ الذي فيهِ عُروقُ الذهب؟ فقلتُ: مثْلُ ماذا؟ فقال: مثلُ قولِ أبي ذؤَاب [من الكامل]: