للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

واعلمْ أن هذا كذلك ما دام النظْمُ واحداً، فأمَّا إذا تغيَّر النظْمُ فلا بدَّ حينئذٍ من أن يتغيَّر المعنى على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير، وعلى ما رأيتَ في المسألة التي مضَت الآنَ، أعني قولَك: (إنَّ زيداً كالأسدِ، وكأنَّ زيداً الأسدُ)، ذاك لأنه لم يتغيَّر من اللفظ شيءٌ وإنما تغيَّر النظْمُ فقط، أما فتْحُكَ "أَنْ" عند تقديم (الكاف) وكانت مكسورةً، فلا اعتدادَ بها، لأن معنى الكَسْرِ باقٍ بحاله.

واعلمْ أنَّ السببَ في أَنْ أَحالوا في أشباهِ هذه المحاسنِ التي ذكرْتُها لكَ على اللفظ، أنها ليستْ بأنفُس المعاني، بل هي زياداتٌ فيها وخصائصُ، ألا ترى أنْ ليست المزيةُ التي تجدُهَا لِقولك: (كأنَّ زيداً الأسدُ)، على قولك: (زيدٌ كالأسد)، شيئاً خارجاً عن التشبيه الذي هو أصْل المعنى، وإنما هو زيادةٌ فيه وفي حُكْم الخصوصية في الشكل، نحْو أن يُصاغَ خاتمٌ على وجهٍ وآخرُ على وجهٍ آخر، تَجمعُهما صورةُ الخاتم، ويفترقان بخاصة، وشيءٌ يُعْلَم إلاَّ أنه لا يُعْلَم منفرداً. ولمَّا كان الأمرُ كذلك، لم يُمكِنْهم أنْ يُطلِقوا اسمَ المعاني على هذه الخصائص، إذْ كان لا يَفترِقُ الحالُ حينئذٍ بين أصْلِ المعنى، وبين ما هو زيادةٌ في المعنى وكيفيةٌ له، وخصوصيةٌ فيه. فلمَّا امتنعَ ذلكَ، تَوصَّلوا إلى الدلالة عليها بأنْ وَصفوا اللفْظَ في ذلك بأوصافٍ يُعْلمُ أنها لا تكونُ أوصافاً له من حيثُ هو لفظٌ كنحْوِ وصْفِهم له بأنه لفظٌ شريفٌ، وأنه قد زانَ المعنى، وأنَّ له ديباجةً، وأنَّ عليه طلاوةً، وأنَّ المعنى منه في مثل الوشْي، وأنه عليه كالحَلْي، إلى أشباه ذلك مما يُعْلَم ضرورةً أنه لا يُعنَى بمثلِه الصوتُ والحرف. ثمَّ إنه لمَّا جرَت به العادة واستمرَّ عليه العُرفُ وصار الناسُ يقولون اللفظَ، واللفظُ لزَّ ذلك بأنفُسِ أقوامٍ باباً من الفساد وخامرهم منهُ شيءٌ لستُ أُحْسِنُ وصْفَهُ.

<<  <   >  >>