للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم لم ينفَكَّ العالِمونَ به والذين هُمْ مِنْ أهله، من دُخولِ الشُّبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السَّهْو والغلط لهم؛ رُويَ عن الأصمعي أنه قال: كنتُ أسيرُ مع أبي عمرو بن العلاء وخلفٍ الأحمر وكانا يأتيان بشاراً فيُسلِّمانِ عليه بغاية الإعظامِ ثم يقولون؛ (يا أبا مُعاذٍ ما أحدثْتَ؟) فيُخْبِرُهما ويُنْشِدُهما، ويَسْألانِه ويكتبان عنه متواضِعَيْن له حتى يأتيَ وقتُ الزوالِ ثم ينصرفان. وأتيَاه يوماً فقالا: ما هذه القصيدةُ التي أحدثْتَها في سَلمِ بن قُتَيْبَةَ؟ قالَ هي التي بلَغَتْكُم. قالوا: بلَغَنا أنك أكْثَرتَ فيها من الغَريب. قال: نعم، بلغني أن سَلْم بْنَ قتيبة، يَتباصَرُ بالغريب، فأحببْتُ أن أوردَ عليه ما لا يَعْرَفُ. قالوا: فانْشِدْناها يا أبا مُعاذ! فأنشدهما [من الخفيف]:

بكِّرا صاحبيَّ قَبْلَ الهجيرِ ... إنَّ ذاكَ النجاحَ في التَّبْكيرِ

حتى فرَغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكانَ: " إن ذاك النجاحَ في التبكيرِ" بكِّرا فالنجاح في التبكير كان أحسَنَ. فقال بشار: إنما بنَيْتُها أعرابية وَحْشيَّة، فقلتُ: إنَّ ذاكَ النجاحَ في التبكير، كما تقولُ الأعرابُ البدويون. ولو قلتُ: "بكِّرا فالنجاحُ" كان هذا من كلام المولَّدينَ ولا يُشْبِهُ ذاكَ الكلامَ ولا يَدْخُل في معنَى القصيدة. قال: فقام خلَفُ فقبَّلَ بين عينيه. فهل كان هذا القولُ من خَلَف، والنقدُ عَلَى بشار، إلاَّ لِلُطْفِ المعنى في ذلك وخَفَائِه؟

واعلمْ أنَّ مِنْ شأن "إنَّ" إذا جاءت على هذا الوجه، أن تُغْني غَناء (الفاءِ) العاطِفةِ مثلاً، وأنْ تُفيدَ من رَبْط الجملةِ بما قبلها، أمراً عجيباً، فأنتَ تَرى الكلامَ بها مستأْنَفاً، غيرَ مستأنفٍ، مقطوعٍ موصولاً معاً. أفلا تَرى أنك لو أَسْقَطْتَ "إنَّ" من قوله: "إنَّ ذاك النجاح في التكير" لم تَر الكلامَ يَلتئمُ، ولو رأيتَ الجملةَ الثانيةَ لا تتَّصل بالأولى ولا تكونُ منها بسبيلٍ حتى تجيء (بالفاء) فتقولُ:

بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجيرِ ... فذاكَ النجاحُ في التكبيرِ

ومثلُه قولُ بعضِ العرب [من الرجز]:

فغنِّها وهيَ لكَ الفداءُ ... إنَّ غناء الإِبلِ الحُداءُ

<<  <   >  >>