وقد يستغرق الجرجاني، للقبض على هنيهة إبداع ورشفة حُسْن، فيقضي لصاحبها "بالحِذق والأستاذية وسعة الذَّرع وشدَّة المنَّة". "حتى تعرف من البيت الواحد، مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وحتى تشهد له بفضل المنَّة وطول الباع ... ثم إنك تحتاج إلى أن تستقريَ عدَّة قصائد، بل أن تَفْليَ ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات .. ".
ويعرض بضعة شواهد، بينها شاهد لعبد الله بن الدمينة، من ثلاثة أبيات هي:
أبِيني، أفي يُمْنَى يَديْكِ جَعلْتِني ... فأفرحَ، أم صيَّزتنِي في شِمالِكِ
أبيتُ كأني بينَ شِقَّيْنِ من عَصَا ... حِذارَ الردى أو خيفة من زيالِكِ
تَعَالَلْتِ كي أشْجى وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قتلي، قد ظفْرتِ بذلكِ
انظر إلى الفصْل والاستئناف في قوله:"تُريدين قتلي قد ظفرتِ بذلك".
وأرقى أنواع النظم البديع لدى أبي بكر، ما اتحدتْ فيه الأجزاء حتى وُضعتْ وضعاً واحداً. ويسوق بضعة أبيات شعرية دالَّة، لعدد من الشعراء بينهم بشار بن برد وزياد الأعجم، ويتوقف ملياً عند بيتٍ لأحد الأعراب، وجد فيه المثال الذي يجمع بين طياته براعة استخدام النحو ولطف التقاط الصورة الشعرية من غسَق المعنى إلى صبح البيان المتشقق بهاءً وخُيَلاء::
الليل داجٍ كَنَفا جِلْبابِهِ ... والبَيْنُ مَحْجورٌ على غرابه
علَّقَ المؤلف على البيت بقوله:
"ليس كلُّ ما ترى من الملاحة لأن جعلَ لِلَّيل جلباباً، وحَجَر على الغراب، ولكنْ في أن وضعَ الكلام الذي ترى: فَجعلَ "الليلَ" مبتدأ، وجعل "داج" خبراً له وفعلاً لما بعده، وهو (الكنفانُ)، وأضاف (الجلباب) إلى ضمير الليل، ولأن جعلَ كذلك "البين" مبتدأ، وأجرى "محْجوراً" خبراً عنه، وأن أخرج اللفظَ على مفعول".
* معاناة المؤلف من غباء أهل عصره من علماء البلاغة، وجدالُه الطويل معهم