وأشباهِ ذلِكَ مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً على تأويلٍ يَدقُّ، ومن طريقٍ تَلْطُفُ؛ وليس يكون هذا علماً بالإعراب، ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإعراب. ومن ثَمَّ لا يجوزُ لنا أنْ نَعْتدَّ في شأنِنا هذا، بأنْ يكون المتكلِّمُ قد اسْتَعملَ من اللغتين في الشيءِ ما يقال إنه أفصَحُهما، وبأنْ يكونَ قد تَحفَّظ مما تخطئ فيه العامَّة، ولا بأن يكونَ قد استعْمَلَ الغريبَ، لأنَّ العِلْم بجميعِ ذلكَ لا يَعْدوا أن يكونَ عِلْماً باللغةِ وبأَنْفُس الكَلِمِ المفردة، وبما طريقُهُ طريقُ الحِفْظِ، دون ما يُستَعانُ عليه بالنظَرِ، ويُوصَلُ إليه بإعمالِ الفِكْر. ولئن كانتِ العامَّةُ وأشباهُ العامَّةِ لا يكادونَ يعرِفونَ الفصاحةَ غيرَ ذلك، فإنَّ مِن ضَعْف النحيزة إِخطارَ مثْلِه في الفكْرِ، وإجراءَه في الذكْرِ، وأنتَ تزعمُ أَنكَ ناظرٌ في دلائل الإعجازِ؛ أترَى أنَّ العَرب تُحُدُّوا أن يَختاروا الفَتْحَ في (الميم) من "الشمَع" و (الهاء) من "النهْر" على الإسْكان، وأنْ يتحفَّظوا مِن تخليطِ العامَّة في مثْلِ "هذا يَسْوَى أَلفا"، أو إلى أنْ يأْتوا بالغريبِ الوحشيِّ في الكلام يعارِضون به القرآنَ؟ كيفَ وأنتَ تقرَأُ السورةَ من السُّوَرِ الطِّوالِ، فلا تَجِدُ فيها مِن الغريب شَيئاً؟ وتأَمَّلْ ما جَمَعهُ العلماءُ في غَريب القرآن، فترى الغريبَ منه، إلا في القليل، إنما كان غريباً من أَجْل استعارةٍ هي فيه، كمِثْل {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل}[البقرة: ٩٣]، ومثْل {خَلَصُوا نَجِيّاً}[يوسف: ٨٠]، ومثْلِ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ}[الحجر: ٩٤]، دون أن تكون اللفظةُ غريبةً في نفسها؛ إنما ترى ذلك في كلماتٍ معدودةٍ كَمِثلِ {عَجِلّ لَّنَا قِطَّنَا}[ص: ١٦]، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}[القمر: ١٣]، و {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً}[مريم: ٢٤].