وهذا سؤالٌ لهم من جنس آخر في النظْم - قالوا: لو كان النظْمُ يكونُ في معاني النحو، لكانَ البدويُّ الذي لم يسمع بالنحو قطُّ، ولم يَعرفِ المبتدأَ والخبرَ وشيئاً مما يذكُرونه، لا يتأتَّى له نظْمُ كلامٍ. وإنَّا لَنرَاه يأتي في كلامِهِ بِنَظْمٍ لا يُحْسنه المتقدِّمُ في علْم النحو: قيلَ: هذه شبهةٌ من جنس ما عرَضَ للذين عابوا المتكلِّمين فقالوا: إِنَّا نعْلم الصحابة رضيَ الله عنهم، والعلماءَ في الصدْرِ الأول، لم يكونوا يَعرفون الجوهَر والعرَضَ وصفةَ النفْس وصفةَ المعنى، وسائرَ العباراتِ التي وضعْتُموها؛ فإنْ كان لا تَتِمُّ الدلالةُ على حدوثِ العالَم والعِلْمِ بوحدانيَّة اللهِ إلا بمعرفَةِ هذه الأشياء التي ابتدأتُموها، فينَبغي لكم أن تدَّعوا أَنكم قد علِمتُم في ذلك ما لم يعْلَموه، وأنَّ منزلَتَكم في العِلْم أعلى من منازِلِهم. وجوابُنا هو مثْلُ جوابِ المتكلِّمينَ. وهو أَنّ الاعتبارَ: بمعرفةِ مدْلولِ العباراتِ لا بمعرفة العباراتِ: فإذا عرَفَ البدويُّ الفرْقَ بين أنْ يقولَ: (جاءني زيدٌ راكباً)، وبين قوله:(جاءني زيدٌ الراكبُ)، لم يَضُرَّهُ أنْ لا يعرفَ أَنه إذا قال:"راكباً" كانتْ عبارةُ النحويينَ فيهِ أن يقولوا في "راكب" إنَّه حالٌ؛ وإذا قال "الراكبُ" إنه صفةٌ جاريةٌ على (زيد). وإذا عرَف في قوله:(زيدٌ منطلقٌ): أَنَّ "زيداً" مُخْبَرٌ عنه، و "منطلق" خَبرٌ، لم يضرَّهُ أنْ لا يعلَمَ أنَّا نُسَمِّي "زيداً" مبتدأ. وإذا عرَفَ في قولنا:(ضربْتُه تأديباً له): أنَّ المعنى في (التأديب) أَنه غرَضُه من الضرب، وأن (ضرْبَه) ليتأدَّبَ، لم يضرَّه أنْ لا يَعْلَم أنَّا نسُمِّي (التأديبَ) مفعولاً له. ولو كان عدَمُ العِلْم بهذه العباراتِ يَمِنعهُ العلمَ بما وضعْناها له وأردناه بها، لكانَ يَنبغي أن لا يكونَ له سبيلٌ إلى بيانِ أَغراضِه، وأنْ لا يَفْصِلَ فيما يَتكلَّم به بين نفي وإثباتٍ، وبين "ما" إذا كان استفهاماً، وبينَه إذا كان بمعنى الذي، وإذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسْمَع عباراتِنا في الفرق بين هذه المعاني.