واعلمْ أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ يُنْكِر أنْ يكونَ لِلمعنى في إحدى العبارتَيْن حسْنٌ ومزيةٌ لا يكونان له في الأخرى. وأنْ تَحْدُثَ فيه على الجملةِ صورةٌ لم تكُن أو يُعْرف ذلك. فإنْ أَنكرَ، لم يُكلم، لأنه يؤديه إلى أن لا يَجْعَل لِلمعنى في قوله:
وتأبى الطباعُ على الناقل
مزيةٌ على الذي يُعقَل من قولهم: الطبعُ لا يتغيَّر ولا يَستطيعُ أنْ يُخرجَ الإنسانَ عما جُبِل عليه: وأنْ لا يُرى لِقولِ أبي نواس: [من السريع]:
ليسَ على الله بمستنكَرٍ ... أَنْ يَجْمعَ العالَم في واحدِ
مزيةٌ على أن يُقال: غيرُ بديع في قدرةِ اللهِ تَعالى أن يَجْمعَ فضائِلَ الخَلْقِ كلَّهم في رجُلٍ واحدٍ. ومَن أَدَّاهُ قولٌ يقولُه إلى مثْلِ هذا، وكان الكلامُ معه مُحالاً؛ وكنتَ إِذا كلَّفْتَه أَنْ يَعْرِفَ، كَمَنْ يُكَلَّفُ أن يُميِّز بحوَر الشعرِ بعضِها من بعضٍ، فيَعْرفَ المديدَ من الطويلِ والبسيطَ من السريع مَنْ ليس له ذوقٌ يُقيمُ به الشِّعْرَ مِن أَصْلِه؛ وإِنْ اعترفَ بأَنَّ ذلك يكون، قلنا له: أَخْبِرْنا عنكَ أَتقولُ في قوله:
وتأبى الطباعُ على الناقلِ
إنَّهُ غايةٌ في الفصاحة؟ فإذا قال: نعم! قيلَ له: أفكانَ كذلك عندكَ من أجْلِ حروفِه، أمْ من أجْلِ حُسْنٍ ومزيةٍ حَصَلا في المعنى؟ فإن قال: مِنْ أَجْل حُروفه: دخلَ في الهذيان، وإن قال: من أجل حُسْنٍ ومزيّةٍ حصَلا في المعنى: قيل له: فذاكَ ما أَردْناكَ عليه، حين قلْنا إن اللفظ يكون فَصيحاً من أجْل مزيةٍ تقع في معناه، لا مِنْ أجْل جَرْسِه وصَداه.
دلالة مراتب التشبيه على أن الفصاحة والبلاغة للمعاني