للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا وأمرُ النظم في أنه ليس شيئاً غيرَ توخي معاني النحو فيما بين الكَلِم وأنَّك تُرتِّبُ المعاني أولاً في نفْسِك، ثم تَحْذُوا على ترتيبها الألفاظَ في نُطْقك، وأنَّا لو فرضْنا أنْ تَخْلوَ الألفاُظُ منَ المعاني، لم يُتصوَّر أنْ يَجبَ فيها نَظْمٌ وترتيب، في غاية القوة والظهور. وثم ترَى الذين لَهَجُوا بأمرِ اللفظِ قد أبَوْا إلاَّ أنْ يجعلوا النظْم في الألفاظ، فترى الرجُلَ منهم يَرى ويَعْلم أنَّ الإنسانَ لا يسَتطيعُ أن يجيءَ بالألفاظ مرتَّبةً إلاَّ من بعد أن يفكِّرَ في المعاني، ويرتِّبها في نفسه على ما أعلَمْناكَ، ثم تُفتِّشه فتَراهُ لا يَعرِفُ الأمرَ بحقيقتِه، وتَراه يَنظُر إلى حال السامعِ، فإذا رأى المعانيَ لا تقَعُ مرتَّبةً في نفسِه، إلاَّ من بعْدِ أن تقَعَ الألفاظُ مرتَّبة في سَمعِه، نسيَ حالَ نفسِه واعتَبَر حالَ مَنْ يَسمَعُ منه. وسبَبُ ذلك قِصَرُ الهمةِ، وضَعْفُ العنايةِ، وتَرْكُ النظر والأُنس بالتلقيد. وما يغنى وضوحُ الدلالة مَعَ مَنْ لا يَنظُر فيها، وإنَّ الصُّبْحَ ليملأُ الأُفقَ لا يَراه النائمُ ومَنْ قد أطْبَقَ جفْنَه؟

إفساد التقليل للذوق والفهم في الفصاحة

واعلمْ أنك لا تَرى في الدنيا عِلْماً قد جرى الأمرُ فيه بَديئاً وأخيراً، على ما جرى عليه في علمٍ الفصاحةِ والبيانِ.

أمَّا البديءُ فهو أنك لا تَرى نوعاً من أنواع العلوم إلاَّ وإذا تأملْتَ كلامَ الأوَّلينَ الذين عَلَّموا الناسَ وجدْتَ العبارةَ فيه أكثرَ من الإشارَة، والتصريحَ أغلبَ من التلويح؛ والأمرُ في علم الفصاحةِ بالضِّدِّ مِن هذا. فإنك إذا قرأت ما قالَه العلماءُ فيه وجدْتَ جُلَّه أو كُلَّهَ رمزاً ووَحْياً وكنايةً وتعريضاً، وإيماءً إلى الغرض من وجْهٍ لا يَفْطِنُ له إلاَّ مَنْ غلغَلَ الفكْرَ وأدَّقَ النظَرَ، ومَنْ يَرجعُ من طَبْعه إلى ألْمَعيَّةِ يَقْوى معها على الغامِض، ويصلُ بها إلى الخفيِّ حتى كان بَسْلاً حَراماً أن تتجلَّى معانيهم سافرةَ الأوجُهِ لا نِقابَ لها، وبادية الصفحةِ لا حِجابَ ذُونها، وحتى كأنَّ الإفصاحَ بها حَرامٌ، وذكرَها إلاَّ على سبيل الكناية والتعريض، غيرُ سائغٍ.

<<  <   >  >>