واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إذا كان صُدورُه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في أنواع من العلوم، غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقع في الأَلْسُن فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر وكَثُرَ الناقلون له والمُشِيدُون بِذكْره، صار تَرْكُ النَّظرِ فيه سنَّةً والتقليدُ ديناً، ورأيتَ الذين همْ أهلُ ذلك العِلْم وخاصَّتُه والممارِسون له والذينَ هُمْ خُلَقاءُ أنْ يَعرِفوا وجْهَ الغلطِ والخطأ فيه - لو أنهم نظَروا فيه - كالأجانب الذين ليسوا من أهله في قبوله، والعمل بهِ والركونِ إليه، ووجدتَهم قد أعطَوه مقادَتهم، وأَلاَنوا له جانِبَهم، وأَوْهَمَهمْ النظَرُ إلى مُنْتَماه ومنْتَسَبهِ، ثم اشتهارِه وانتشارِه وإطباقِ الجمع بعد الجمع عليه، أَنَّ الضنَّ به أصوبُ، والمحاماةَ عليه أَوْلى. ولربما بل كلما طنوا أنه لم يشِعْ ولم يتَّسِغُ، ولم يرَوْه خَلَفٌ عن سلَف، وآخرُ عن أَوّلٍ، وإلاَّ لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمانِ وكُرورِ الأيامِ، وكم خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ، حظيَ بهذا السبَبِ عند الناس، حتى بَوَّأُوه في أَخَصِّ موضعٍ في قلوبهم، ومنَحوه المحبَّةَ الصادقةَ من نفوسهم، وعطَفُوه عليه عطْفَ الأُمِّ على واحدِها. وكم من داءٍ دَويٍّ قد استحْكَم بهذه العِلَّة حتى أعْيَا علاجُه، وحتى بَعِلَ به الطبيبُ. ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتَقطعُ عنها دواعيَ التفكُّر، لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ اللفظ هذا التمكُّنُ وهذه القوَّةُ، ولا كان يَرْسُخُ في النفوسِ هذا الرسوخَ، وتَتَشعَّب عروقُه هذا التشعُّبَ، مع الذي بان مِن تهافُتهِ وسقُوطهِ، وفُحْشِ الغَلَطِ فيه، وأنَّكَ لا تَرى في أَديمهِ، مِنْ أَين نظَرْتَ وكيفَ صرَّفْتَ وقلَّبْتَ، مَصَحّاً، ولا تَراه باطِلاً في شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفاً فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغِشَّ بَحْتاً، والغلَطَ صِرْفاً، ونسألُ اللهَ التوفيق.