للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلمْ أَنَّكَ إذا سبرْتَ أَحوالَ هولاءِ الذين زَعَموا أنه إذا كان المعبَّرُ عَنهُ واحداً والعبارةُ اثنتَيْن، ثم كانت إحدى العبارتَيْن أَفْصَحَ من الأخرى وأحْسَنَ، فإنه يَنبغي أن يكونَ السببُ في كونها أَفْصَحَ وأحسَنَ، اللفظَ نفسَه، وجدتَهم قد قالوا ذلك من حيثُ قاسوا الكلامَيْن على الكلمتَيْن، فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في الكلمتين إن معناهما واحدٌ، لم يكنْ بينهما تفاوتٌ ولم يكنْ للمعنى في أحدِهما حالٌ لا يكون له في الأخرى، ظَنُّوا أنَّ سبيلَ الكلامين في هذا السبيلُ. ولقد غَلِطوا فأَفْحَشوا، لأنه لا يُتصوَّرُ أنْ تكونَ صورةُ المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثْلَ صورتِه في الآخَر البتَّةَ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يَعْمدَ عامِدٌ إلى بيتٍ فيضَعَ مكانَ كلِّ لفظةٍ من لفظةً في معناها، ولا يَعْرِضُ لنظْمهِ وتأليفه، كمِثلِ أن يقول في بيت الحُطَيْئَة [من البسيط]:

دَعِ المكارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي

ذَرِ المفَاخِرَ لاتذْهَبْ لِمَطْلبها ... واجلسْ فإنك أنتَ الآكِل اللابسُ

وما كان هذا سبيلَه، كان بمعزلٍ من أنْ يكونَ به اعتدادٌ، وأنْ يَدخُلَ في قبيلِ ما يفاضَلُ فيه بين عبارتين؛ بل لا يصِحُّ أنْ يُجعلَ ذلك عبارةً ثانيةً، ولا أنْ يُجعلَ الذي يتعاطاه بِمَحَلِّ مَنْ يوصَف بأنه أخذَ معنىً. ذلك لأنه لا يكونُ بذلك صانعاً شيئاً يَستحقُّ أنْ يُدْعى من أجْلهِ واضعَ كلامٍ ومستأنِفَ عبارةٍ وقائلَ شعرٍ. ذاك لأنَّ بيتَ الحطيئةِ لم يكُن كلاماً وشعراً مِن أجْل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجرَّدةً معرَّاةً من معاني النظْمِ والتأليفِ، بل منها مُتَوخىًّ فيها ما ترَى من كَوْن (المكارِم) مفعولاً لـ (دعْ) وكونِ قوله: (لا ترحل لبغيتها)؛ جملةً أكَّدتْ الجملةَ قبلَها، وكون "اقْعد" معطوفاً بـ (الواو) على مجموع ما مضى، وكون جملة: أنتَ الطاعمُ الكاسى: معطوفةً بـ (الفاء) على "اقعد"، فالذي يجيء، فلا يُغيِّر شيئاً من هذا الذي به كان كلاماً وشعراً، لا يكونُ قد أتى بكلامٍ ثانٍ وعبارةٍ ثانية، بل لا يكون قد قال من عندِ نفْسِه شيئاً البتةَ.

<<  <   >  >>