وفي كتابه:"عبد القاهر الجرجاني وجهوده في البلاغة العربية" يعمد الدكتور أحمد بدوي، إلى شعره لاستخلاص بعض مزاياه وخصالة ونضاله، ولولا هذا الشعر، لكانت حياة الجرجاني، غائبة كلِّياً عن قارئ اليوم الذي تعوَّد أن يطَّلع على سير أعلامه بوفرة ويُسْر، ولكن الأيام لها تصاريفها، فتُعتِّم على بعض النوابغ الأفذاذ، وتفيض بما لا حصر له على كثير من رجال السلطان والنفوذ، وقليلٍ من العظماء الذي تحدُّوا التاريخ فحفروا سيرهم على صفحاته حَفْراً لم تستطع قوى الظلام طمسها أو تشويهها .. هذا الكتاب الذي يبلغ ٤٢٨ صفحة من الحجم الوسط لم نقرأ فيه شيئاً عن حياة الجرجاني، فيما خلا الإشارات الخاطفة التي لخصها كتَّاب التراجم، والومضات الشعرية التي عكست أصداءً غير مدوية لواقعه النفسي .. حتى أساتذته، لم يزيدوا على اثنين لقيهما أبو بكر وأخذ عنهما، الأول: أبو الحسين محمد بن الحسن بن عبد الوارث الفارسي النحوي، ابن أخت العالم الشهير أبي علي الفارسي .. والثاني أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، المعروف بالقاضي الجرجاني المتوفى سنة ٣٩٢هـ/ ١٠٠٢م، الأمر الذي يدعو إلى الغرابة، في إمكان لقاء أبي بكر به والتمكن من الأخذ عنه؛ وهو الذي لم يعرف عنه الحياة الطويلة .. والأرجح أن يكون عبد القاهر قد اطَّلع عن كَثَب على كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه" وفيه يُغلِّب القاضي دَفَّةَ المتنبي على أبي تمام وغيره من الشعراء والمنتقدين، فلقي ذلك هوىً في نفسه لأنه من هذا الفريق. أما تلاميذه فالحديث عنهم لا يروي غليلاً، إذ ذكر له تلميذان فقط، هما علي بن زيد الفصيحي، وأبو نصر أحمد بن محمد الشجري، الذي أخذ عنه كتاب المقتصد" في النحْو.
ومن الثابت أن عبد القاهر لم يغادر جرجان إلى بلد آخر، من المهد إلى اللحد، وكان الطلاب والوافدون إليه، يقصدونه من بلاد بعيدة ويقيمون بقربه للاستمتاع إليه والأخذ عنه.
وأما خصاله وطبائعه النفسية، فلم يُشر أحد إليها إلاَّ عرضاً وبكلمات خاطفة، كقول تاج الدين السّبْكي: "صار الإمامَ المشهور المقصود من جميع الجهات مع الدين المتين والورَع والسُّكون".