فهذا في فضل العلم، لا تَجد عاقلاً يُخالفك فيه، ولا ترى أحداً يدَفعُه أو ينفيه؛ فأمَّا المفاضلةُ بين بعضه وبعضٍ، وتقديمُ فنٍّ منه على فنّ، فإنَّك تَرى الناسَ فيه على آراءٍ مختلفة، وأهواء مُتعادية؛ تَرى كلاً منهم لِحُبِّه نفسَه وإيثاره أن يَدْفعَ النقصَ عنها، يُقدِّم ما يُحْسِن من أنواع العلم على ما لا يُحْسِن، ويحاول الزِّرايةَ على الذي لم يَحْظَ به، والطعنَ على أهله، والغَضَّ منهم. ثم تتفاوتُ أحوالهُم في ذلك؛ فمِن مغمورٍ قد استهلكه هواه، وبَعُدَ في الجَوْر مَداه، ومِنْ مُترجِّح فيه بين الإنصاف والظلم، يجور تارة ويَعْدل أخرى في الحُكْم؛ فأمَّا من يَخلُص في هذا المعنى من الحَيْف حتى لا يقضيَ إلاّ بالعدل، وحتى يَصْدُر في كل أمره عن العقل، فكالشيء الممتنع وجودُه؛ ولم يكن ذلك كذلك، إلاَّ لِشَرفِ العلم وجليل محلِّه، وأنَّ محبته مركوزةٌ في الطِّباع، ومُرَكَّبة في النفوس، وأن الغَيْرة عليه لازمةٌ للجِبِلَّة، وموضوعه في الفِطرة، وأنه لا عيب أعيْبُ عند الجميع من عَدَمه، ولا ضَعةَ أوْضعُ من الخلُوِّ عنه؛ فلم يُعادَ إذن إلا من فرط المحبة، ولم يُسمح به إلاَّ لشدة الضنِّ.