للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإنْ زَعمَ أنه ذَمَّ الشعرَ من حيث هو موزونٌ مقفَّى، حتى كان الوزنُ عيباً، وحتى كان الكلامُ إذا نُظمَ نَظْمَ الشعرِ، اتَّضَعَ في نفسه وتَغيَّرتْ حالُه، فقد أبعد وقال قولاً لا يُعرفُ له مَعنى، وخالف العلماءَ في قولهم: "إنما الشعرُ كلامٌ فحَسَنُه حَسَنٌ وقبيحُه قبيح"، وقد رُوي ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرفوعاً.

فإنْ زعمَ أنه إنما كَرِهَ الوزنَ لأنه سبَبٌ لأَنْ يُغنَّى في الشعر ويُتَلهَّى به، فإنَّا إذا كُنَّا لم نَدْعُه إلى الشعر من أجل ذلك، وإنما دَعوناه إلى اللفظ الجَزْل، والقولِ الفَصْل، والمنطق الحسَن، والكلام البيِّن، وإلى حُسْنِ التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صَنعةٍ تَعْمَدُ إلى المعنى الخسيس فتُشَرِّفُه، وإلى الضئيل فَتُفخِّمُه، وإلى النازل فترفَعُه، وإلى الخامل فَتُنوِّه به، وإلى العاطلِ فتُحَلِّيه، وإلى المشكل فتُحْليه، فلا مُتَعلَّقَ له علينا بما ذَكَر، ولا ضررَ علينا فيما أَنْكَر، فليَقُلْ في الوزنِ ما شاء، ولْيَضَعْه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مُرادُنا من هذا الذي راجَعْنا القولَ فيه.

وهذا هو الجواب لمتُعلِّقٍ إنْ تَعَلَّق بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: ٦٩]، وأراد أن يَجْعله حُجةً في المنع مِن الشعر ومِنْ حِفْظه وروايته؛ وذاك أنَّا نَعْلم أنَّه صلى الله عليه وسلم، لم يَمْنع الشعرَ من أجل أنْ كان قولاً فصلاً، وكلاماً جَزْلا، ومنطقاً حَسناً، وبَياناً بيِّناً؛ كيفَ وذلك يقتضي أن يكون اللهُ تعالى قد مَنَعه البيانَ والبلاغةَ، وحماهُ الفصاحةَ والبراعةَ، وجَعلَه لا يَبْلُغ مَبْلغَ الشعراء في حُسْنِ العبارة وشَرَف اللفظ؟ وهذا جهلٌ عظيم، وخِلافٌ لما عَرفهُ العلماءُ، وأَجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم، كان أفصحَ العَرب؛ وإذا بطَلَ أن يكون المَنْعُ، من أجل هذه المعاني، وكنَّا قد أعلمناه أنَّا نَدْعو إلى الشعر من أجلها، ونَحْذُو بطلبه على طلبها، كان الاعتراض بالآية مُحالاً، والتعلُّق بها خَطلاً من الرأي وانحلالاً.

<<  <   >  >>