للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إن شكَكْتَ فتأمل! هل ترى لفظة منها، بحيث لو أُخِذَتْ من بين أَخواتها وأُفردتْ، لأَدَّت من الفصاحة ما تُؤدِّيه وهي في مكانها من الآية؟ قل" إبلَعي" واعتبرْها وحْدَها، من غير أن تَنْظُرَ إلى ما قَبْلَها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها! وكيف بالشك في ذلك، ومعلوم أن مبْدَأ العظمةِ في أن نُوديت الأرضُ، ثم أُمرَتْ، ثم في أن كان النداءُ بـ "يا" أيّ نحو: يا أيتها الأرضُ، ثم إضافةِ الماء إلى (الكاف) دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أن اتبع نداءُ الأرض وأمرُها بما هو شأنها، نداءَ السماء وأمرَها كذلك بما يَخصُّها، ثم أنْ قيل: "وغِيضَ الماءُ"، فجاء الفعلُ على صيغة "فُعِل" الدالَّةِ على أنَّه لم يَغِضْ إلاَّ بأَمر آمرٍ، وقُدرةِ قادرٍ، ثم تأكيدُ ذلك وتقريرُه بقوله تعالى: "وقُضيَ الأَمُر"، ثم ذكرُ ما هو فائدةُ هذه الأمور وهو: "استوتْ عَلَى الجُوديِّ". ثم إضمارُ "السفينة" قَبْل الذكْر، كما هو شرطُ الفخامةِ والدلالةِ على عِظَم الشأن، ثم مقابلة "قيل" في الخاتمة "بقيل" في الفاتحة.

أفترى لِشيءٍ من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعةً، وتحضُرُكَ عند تصورها هيبةً، تُحيطُ بالنفس من أقطارها تعلُّقاً باللفظ من حيث هو صوتٌ مسموعٌ، وحروفٌ تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك، لما بين معاني الألفاظِ مِنَ الاتِّساقِ العجيب؟

فقد اتَّضحَ إذن، اتضاحاً لا يَدَعُ لِلشكِ مجالاً، أنَّ الألفاظ لا تتفاضَلُ من حيث هي ألفاظٌ مجرَّدة، ولا من حيث هي كَلِمٌ مفردة، وأن الألفاظ تَثْبُتُ لها الفضيلة وخِلافُها، في ملاءمةِ معنى اللفظةِ لمعنى التي تليها، أو ما أشبهَ ذلك مما لا تَعلُّقَ له بصريحِ اللفظِ. ومما يَشهد لذلك أَنَّك ترى الكلمةَ تروقُك وتُؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تَثْقُلُ عليك، وتُوحِشُك في موضع آخر، كلفظ "الأَخدع" في بيت الحماسة [من الطويل]:

تلفَّتُّ نَحْو الحيّ حتى وجدْتُني ... وجِعْتُ من الإصغاءِ ليتاً وأخدعا

وبيت البحتريّ [من الطويل]:

وإنِّي وإنْ بلَّغْتَني شرَفَ الغِنى ... وأَعتقْتَ مِنْ رِقِّ المَطامع أَخْدَعي

<<  <   >  >>