والفائدة في معرفة هذا الفرق، أَنكَ إذا عرَفْتَه عرفْتَ أنْ ليس الغَرضُ بنَظْم الكَلِم أَنْ توالَتْ ألفاظُها في النطق، بل أَنْ تناسَقَتْ دلالتُها، وتَلاقَتْ معانيها على الوجه الذين اقتضاه العقل. وكيف يُتَصَّور أنْ يُقصَد به إلى توالي الألفاظ في النطق، بعد أن ثَبَتَ أنه نظْمٌ يُعْتَبر فيه حالُ المنظوم بعضِه مع بعض، وأنه نَظيرُ الصياغة والتحبير والتفويف والنقش، وكلِّ ما يُقصَد به التصوير: وبعْدَ أن كنَّا لا نَشكُّ في أنْ لا حال لِلفظةٍ مع صاحبتها تُعْتَبر، إذا أنتَ عزلْتَ دلالَتَهما جانباً؟ وأَيُّ مساغٍ للشك في أنَّ الأَلفاظَ لا تستحق من حيث هي ألفاظٌ، أن تُنْظَم على وجهٍ دون وجهٍ؟ ولو فرَضْنا أنْ تَنْخلِعَ مِن هذه الألفاظ، التي هي لغاتٌ، دلالَتُها، لَمَا كان شيءٌ منها أَحَقَّ بالتقديم من شيءٍ، ولا يُتَصَوَّر أن يَجِبَ فيها تَرتيبٌ ونَظْمٌ. ولو حفَّظْتَ صبياً شطْرَ "كتابِ العين" أو "الجمهرة"، مِنْ غير أن تُفَسِّر له شيئاً منه، وأخذْتَه بأن يَضْبِطَ صُوَرَ الألفاظِ وهيأَتَها، ويؤدِّيها كما يؤدِّي أصنافَ أصواتِ الطيور، لرأيتَهُ ولا يَخْطرُ له ببالٍ، أَنَّ مِن شأنه أنْ يؤخِّر لفظاً ويقدِّم آخرَ. بل كان حالُه حالَ مَنْ يَرمي الحَصى ويعدُّ الجوزَ، اللهمَّ إلاَّ أن تَسُومَه أنتَ أَنْ يأتيَ بها على حروف المعجم، ليحفظ نَسَقَ الكتابِ.
تحقيق القول في البلاغة أنها تتعلق بالمعنى لا اللفظ
ودليل آخر، وهو أنه، لو كان القصْدُ بالنظم، إلى اللفظ نَفْسِه، دون أن يكون الغرضُ ترتيبَ المعاني في النفس، ثم النطقَ بالألفاظ على حَذْوها، لَكانَ يَنْبغي أن لا يَخْتلف حال اثنين في العِلْم، بحُسْن النظُم أو غيرِ الحُسْنِ فيه، لأنهما يُحِسَّان بِتَوالي الألفاظِ في النطق إحساساً واحداً ولا يَعْرِفُ أحدُهما في ذلك شيئاً يَجْهلُهُ الآخرُ.