للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد نجوا بغنيمتهم فوق طريق جبلي وعر، وهم يصيحون صيحة الفرح والفوز، ويحثون الإبل المنهوبة على الإسراع بينما أهل الشيخ يفكرون أين استقر به وبإبله المقام؟ وماذا أخره حتى تلك الساعة من الليل؟ وفي هذه الغمرة من الفرح لا ينسى السليك أن يبرر غارته، فهو لم يقدم عليها إلا بعد أن أصبحت المسألة مسألة حياة أو موت، فقد أشرف على الهلاك لشدة فقره وجوعه، حتى ليصيبه الدوار كما قام لفرط ضعفه وإعيائه، وتظلم عيناه لشدة هزاله وإجهاده.

وهذا تأبط شرا يحدثنا في مقطوعة له١ عن مغامرة طريفة من مغامراته، خرج فيها إلى غار في بلاد هذيل، أعدائه الألداء، ليشتار عسلا، وعلمت هذيل بخبره، فوجدوا الفرصة سانحة ليتخلصوا منه، فحاصروه في الغار وطلبوا إليه التسليم، ولكنه راح يراوغهم وقد أخذ "يُسيل العسل على فم الغار، ثم عمد إلى زق فشده على صدره، ثم لصق بالعسل، ولم يزل يزلق حتى جاء سليما إلى أسفل الجبل، فنهض وفاتهم".

يبدأ الشاعر الصعلوك قصيدته بأبيات في الحكمة يودعها خلاصة تجربته التي مر بها، فالشخص الحازم هو الذي يستعين بالحيلة في مواطن الخطر، لينجو بها منه، وهو الذي يعمل للأمر حسابه قبل أن يأخذه على غرة، وعلى المرء أن يكون مرنا في تصرفاته إذا ما سدت منافذ الأمر عليه:

إذ المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر

فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سُد منه منخر جاش منخر٢


١ التبريزي: شرح حماسة أبي تمام ١/ ٣٨ وما بعدها، والبغدادي: خزانة الأدب ٣/ ٣٥٧ وما بعدها، والعيني: شرح الشواهد الكبرى "على هامش الخزانة" ٢/ ١٦٥-١٧٠، وفي الأغاني ١٨/ ٢١٥ مع اختلاف في ترتيب الأبيات عن سائر المصادر الأولى، ومع انفراده بزيادة بيت على آخر القصيدة، وقد آثرنا رواية المصادر الأولى لأنها أدق في التعبير عن نفسية الشاعر.
٢ قريع الدهر: يريد به المجرب البصير. وقوله: "إذا سد منه منخر" المراد به إذا ضاقت عليه الأمور، وسدت المسالك.

<<  <   >  >>