للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يعيش قريب من مكة حيث سوق الرقيق يساق إليها الأسرى الذين لا يفتديهم أهلهم حيث يباعون.

وحين يفرغ هذا السحاب مطره بعد ما تكاثفت أواخره، ويهدأ ذلك الدوي الذي كانت تثيره رعوده، ويرى الشاعر أن أقرب صورة لهذا المنظر صورة جماعة من النصارى مجتمعين في عيد من أعيادهم يسقي بعضهم بعض، وهم من مرحهم ولهوهم في ضجة وصخب، ولكنهم ينظرون فإذا أمامهم رجل من غير دينهم، فإذا ضجتهم تهدأ، وصخبهم ينقطع، حتى يتبينوا أمر هذا الغريب:

كان تواليه بالملا ... نصارى يساقون لاقوا حنيفا١

وهي صورة ترسم في براعة ممتازة جانبا دقيقا من الحياة الدينية في العصر الجاهلي. ومن الطبيعي أن يعرف صخر الغي هذا الجانب معرفة دقيقة، فقد كانت هذيل تنزل في تلك المنطقة التي تقع فيها مكة المركز الديني الأول في جزيرة العرب، والتي تقام فيه أشهر الأسواق التي كان القسس والرهبان يردونها فيعظون ويبشرون، ويذكرون البعث والحساب والجنة والنار.

ومن هنا أيضا نستطيع أن نكشف الستار عن تشبيه الأعلم الهذلي لجلود جراء الضباع السود بثياب الرهبان:

سود سحاليل كأن ... جلودهن ثياب راهب٢

ولكنا مع ذلك نحس شيئا من السخرية الماكرة من هذه التقاليد الكهنوتية في عقد الصلة بين جراء الضباع وبين الرهبان، وهي سخرية ليست غريبة على هؤلاء الصعاليك المتمردين على كثير من تقاليد مجتمعهم.

وحين يلمع البرق فإن الصورة التي تتراءى لصخر الغي هي صورة ذلك البشير الذي أقبل بعد غزوة ناجحة وهي يحرك ترسه في كفه ليعلم أصحابه أنه قد عاد غانما:


١ شرح أشعار الهذليين ١/ ٤٥. وديوان الهذليين القسم الثاني/ ٧١ - وقد اختلف المفسرون في معنى هذا البيت اختلافا عريضا، ولكني أظن أن هذه الصورة التي رسمتها للبيت هنا هي أقرب الصور إلى معناه.
٢ شرح أشعار الهذليين ١/ ٥٧.

<<  <   >  >>