النوع الثامن عشر: معرفة المعلل من الحديث، وهو فنٌ خفي على كثير من علماء الحديث, حتى قال بعض حفاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل، وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة النقاد منهم, يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه, ومعوجه ومستقيمه, كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجياد والزيوف, والدنانير والفلوس، فكما لا يتمارى هذا كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث, وذوقهم حلاوة عبارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس.
فمن الأحاديث المروية ما عليه أنوار النبوة, ومنها ما وقع فيه تغيير لفظ أو زيادة باطلة أو مجازفة أو نحو ذلك, يدركها البصير من أهل هذه الصناعة، وقد يكون التعليل مستفاداً من الإسناد, وبسط أمثلة ذلك يطول جداً، وإنما يظهر بالعمل، ومن أحسن كتاب وضع في ذلك وأجله وأفحله "كتاب العلل" لعلي بن المديني شيخ البخاري، وسائر المحدثين بعده في هذا الشأن على الخصوص، وكذلك كتاب "العلل" لعبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو مرتبٌ على أبواب الفقه، وكتاب "العلل" للخلال، ويقع في مسند الحافظ أبي بكر البزار من التعاليل ما لا يوجد في غيره من المسانيد.
وقد جمع أزمة ما ذكرناه كله الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني في كتابه في ذلك، وهو من أجل كتابٍ، بل أجلُّ ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله، وقد أعجز من يريد أن يأتي بشكله، فرحمه الله وأكرم مثواه، ولكن يعوزه شيءٌ لا بد منه وهو أن يرتب على الأبواب ليقرب تناوله للطلاب، أو أن تكون أسماء الصحابة الذين اشتمل عليهم مرتبين على حروف المعجم ليسهل الأخذ منه، فإنه مبدد جداً، لا يكاد يهتدي الإنسان إلى مطلوبه منه بسهولة، والله الموفق.