"وقد يعرف ذلك بالتاريخ وعلم السيرة" عندنا حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم))، وحديث:"احتجم النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو صائمٌ محرم"، الحديث الأول يرويه شداد بن أوس، وهذا يرويه ابن عباس، قرر الإمام الشافعي أن ذاك في الفتح، وهذا في حجة الوداع، ولا شك أن حجة الوداع متأخرة عن غزاة الفتح، وعلى هذا يكون على ما قرره الإمام الشافعي حديث ابن عباس ناسخ لحديث شداد بن أوس.
" ... قول الصحابي هذا ناسخٌ لهذا" قال: "لم يقبله كثيرٌ من الأصوليين، لأنه يرجع إلى نوع من الاجتهاد" وقد يخطئ في الاجتهاد، لا شك أنه ليس بمعصوم، إذا كان مرده إلى رأيه واجتهاده، لكن إذا نقل خبراً لزمنا قبوله؛ لأنه ثقةٌ مقبول الرواية، والصحابة كلهم عدول، نعم.
وهذا المبحث من المباحث العظيمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها؛ لأنه يترتب عليها الصواب والخطأ في اعتماد النص المتقدم والمتأخر؛ لأنك تجد بين يديك نصاً صحيحاً، رواته ثقات، وقد يكون مما نص عليه في القرآن إلا أنه منسوخ كعدة الوفاة، التربص للوفاة حول، قد يقول قائل: هذه .. ، {مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [(٢٤٠) سورة البقرة] قد يقول قائل: هذا في القرآن، ما المانع من العمل به؟ نقول: هذا نصٌ منسوخ.
وهذا الباب والذي عمدته الرواية كما قال الزهري:"أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ الحديث من منسوخه" لأنهم عمدتهم الرأي والاستنباط، لكنهم لا يحفظون الآثار، ولا يعرفون متقدمها من متأخرها، فهذا أعياهم وأعجزهم، ولذا تجد الكثير ممن ينحى منحى الفقهاء، ولا يعتني بحفظ النصوص يشكل عليه كثير من الأمور، فإذا سئل عن مسألة إن كانت مبنية على فهم وكان النص حاضر استطاع أن يستنبط، وإلا اضطر إلى الأقيسة والرأي، وغفل عن النصوص الصحيحة الصريحة ولعدم حفظه لها، وحينئذٍ يسلك هذا المسلك الخطير الذي يبني فيه دينه وفتواه وعلمه على الرأي في مقابلة النصوص، ومعلوم أن الرأي الذي لا يعتمد على النص لا قيمة له، والاحتمالات العقلية المجردة التي لا مستند لها من النصوص لا يعبأ بها، ولا يكترث بها.