للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكَلَامِ أَفَرَرْتُمْ كُلُّكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ الْبَرَاءُ: لَا نَفْيًا لِفِرَارِ الْكُلِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِدْرَاكُ، وَصَرَّحَ بِنَفْيِ تَوْلِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ فِرَارِ الْعَسْكَرِ تَوْلِيَةُ الْأَمِيرِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ، وَقِيلَ قَوْلُ الْبَرَاءِ: «لَا» . رَفَعَ الْإِيجَابَ الْكُلِّيَّ الَّذِي تَوَهَّمَهُ السَّائِلُ، وَقَوْلُهُ: «مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ الرَّفْعِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ لِتَأْكِيدِ هَذَا النَّفْيِ أَوْ لِلرَّفْعِ السَّابِقِ يَعْنِي لَمَّا لَمْ يَفِرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَفِرُّ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، نَعَمْ سَرَعَانُ النَّاسِ جَرَى لَهُمْ ذَلِكَ كَذَا وَكَذَا انْتَهَى. وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا ابْنُ حَجَرٍ، وَأَطْنَبَ فِي

تَوْضِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: وَقَوْلُهُ (لَا) أَيْ: لَمْ نَفِرَّ بِأَجْمَعِنَا بَلْ فَرَّ بَعْضُنَا، وَبَقِيَ بَعْضُنَا وَأَكَّدَ بَقَاءَ الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَلْزَمُ مِنْ بَقَائِهِ بَقَاءُ طَائِفَةٍ مَعَهُ لِمَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ إِيثَارِهِمْ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ أَدَبِ الْبَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبَلَاغَتِهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْهُ، وَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ تَعْبِيرُ السَّائِلِ: «بِعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أَنَّهُ فَرَّ مَعَهُمْ، وَزَادَ فِي التَّأَدُّبِ نَفْيُ التَّوَلِّي دُونَ الْفِرَارِ نَزَاهَةً لِمَقَامِهِ الرَّفِيعِ عَنْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ لَفْظَ الْفِرَارِ فِي النَّفْيِ فَضْلًا عَنِ الْإِثْبَاتِ ; لِأَنَّهُ أَشْنَعُ مِنْ لَفْظِ التَّوَلِّي إِذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ لِتَحَيُّزٍ أَوِ انْحِرَافٍ بِخِلَافِ الْفِرَارِ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْخَوْفِ، وَالْجُبْنِ أَيْ: غَالِبًا وَإِلَّا فِرَارَ الصَّحَابَةِ هُنَا لَمْ يَتَمَحَّضْ لِذَلِكَ قَطْعًا، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: هَذَا الِانْهِزَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ نِيَّةِ الْعَوْدِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْدَادُ لِلْكَرَّةِ، فَهُوَ كَالتَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْبَرَاءَ أَشَارَ إِلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ، وَالْبَيِّنَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى عَدَمِ فِرَارِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَوَلٍّ فَهُمْ كَذَلِكَ لِمُثَابَرَتِهِمْ عَلَى بَذْلِهِمْ نُفُوسَهُمْ دُونَهُ، وَعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْذُلُهُ، وَأَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَرْجِعُ مُنْهَزِمًا، إِلَى قَوْلِهِ: دُرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْهَزِمًا فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنَ الْأَكْوَعِ فَزِعًا فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: قَوْلُهُ مُنْهَزِمًا حَالٌ مِنَ ابْنِ الْأَكْوَعِ كَمَا صَرَّحَ أَوَّلًا بِانْهِزَامِهِ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْهَزَمَ إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْحَرْبِ.

وَمِنْ ثَمَّةَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الِانْهِزَامُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ انْهَزَمَ فِي مَوْطِنٍ مِنْ مَوَاطِنِ الْحَرْبِ أُدِّبَ تَأْدِيبًا عَظِيمًا لَائِقًا بِعَظِيمِ جَرِيمَتِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولَهُ عَلَى جِهَةِ التَّنْقِيصِ ; فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ، فَيُقْتَلُ مَا لَمْ يَتُبْ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا، وَمُطْلَقًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ بَلْ لَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ قُتِلَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمُ انْتَهَى.

فَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ سَلَاطِينِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَهُوَ عُبَيْدُ خَانْ فِي بَيْتِهِ الْمَشْهُورِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْمَلَاجَامِيِّ حَيْثُ جَعَلَ هِجْرَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا أَقْبَحَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ التَّلَفُّظِ بِبَيْتِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ; فَإِنَّهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ الْعَارِفِينَ بِالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ ثُمَّ مِمَّا رَسَخَ بِالْبَالِ، وَخَطَرَ فِي الْحَالِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لَا وَاللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ وَرَاءَهُ ; وَإِنَّمَا وَلَّى مُقَدِّمَةُ الْعَسْكَرِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ أَيْ: أَوَائِلُهُمُ الْمُسْرِعِينَ فِي السَّيْرِ أَوِ الْمُسْتَعْجِلِينَ فِي الْأَمْرِ لِعَدَمِ رُسُوخِهِمْ، وَوُقُوفِهِمْ بِحَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ فِرَارِهِمْ بِقَوْلِهِ (تَلَقَّتْهُمْ) تَفَعَّلَ مِنَ اللُّقْيِ أَيْ: قَابَلَتْهُمْ وَوَاجَهَتْهُمْ (هَوَازِنُ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ بِشِدَّةِ السَّهْمِ لَا يَكَادُ تُخْطِئُ سِهَامُهُمْ (بِالنَّبْلِ) ، الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: بِرَمْيِهِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُرَادُ بِهِ السِّهَامُ الْعَرَبِيَّةُ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَقِيلَ أَنَّهُ جَمْعُ نَبْلَةٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى نِبَالٍ بِالْكَسْرِ، وَأَنْبَالٍ (وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَغْلَتِهِ)

أَيِ: الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ شَجَاعَتِهِ الْمُشْعِرَةِ بِعَدَمِ التَّوْلِيَةِ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْفِرَارُ بِهَا أَصْلًا لَا نَقْلًا، وَلَا عَقْلًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَبِمَا ذَكَرْنَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ بَعْدَمَا صَاحَ بِهِمُ الْعَبَّاسُ، وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا، وَفِي رِوَايَةٍ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَقِبِهِمْ فَقَالَ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، وَأَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ، وَكَانَ الْأَصْحَابُ مَشْغُولِينَ بِالْفِرَارِ بِحَيْثُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خَلْفٍ أَصْلًا.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْفَرِدًا فِيمَا بَيْنَ الْكُفَّارِ، فَقَدْ يُقَالُ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكِنَايَةِ عَنْ قِلَّةِ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ جُمِعُوا عِنْدَهُ، وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (

<<  <  ج: ص:  >  >>