للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا تُقَاسِي مِنْهُ مِنَ الْأَذِيَّةِ، وَسُوءِ الْعِشْرَةِ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: «أَشْكُوا عُجَرِي وَبُجَرِي إِلَى رَبِّي» أَيْ: هُمُومِي وَأَحْزَانِي، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مَعْنَاهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا أَذَرَ صِفَتَهُ، وَلَا أَقْطَعَهَا مِنْ طُولِهَا، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَعْنَاهُ أَخَافُ أَنْ لَا أَقْدِرَ عَلَى فِرَاقِهِ لِأَنَّ أَوْلَادِيَ مِنْهُ، وَأَسْبَابَ رِزْقِنَا عَنْهُ، ثُمَّ قِيلَ أَصْلُ الْعُجَرِ جَمْعُ عُجْرَةٍ وَهِيَ نَفْخَةٌ فِي عُرُوقِ الْعُنُقِ حَتَّى تَرَيْهَا نَاتِئَةً مِنَ الْجَسَدِ، وَالْبُجَرُ جَمْعُ بُجْرَةٍ وَهُوَ نُتُوءُ السُّرَّةِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتَا فِي الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَقِيلَ: «لَا» فِي: «أَنْ لَا أَذَرَهُ» زَائِدَةٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّوْجِ أَيْ: أَخَافُ أَنْ أَذَرَ زَوْجِي بِأَنْ طَلَّقَنِي، وَحَاصِلُ كَلَامِهَا أَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَشْكُوَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أُمُورَهُ كُلَّهَا مَا ظَهَرَ وَمَا بَطَنَ مِنْهَا (قَالَتِ الثَّالِثَةُ زَوْجِيَ الْعَشَنَّقُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ أَيِ: الطَّوِيلُ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا الطُّولُ، فَهُوَ طَلَلٌ بِلَا طَائِلٍ فَلَا نَفْعَ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَانُ مَعَهُ يَطُولُ فَمُصَاحِبُهُ حَزِينٌ مَلُولٌ، وَقِيلَ هِيَ السَّيِّئُ الْخُلُقِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا (إِنْ أَنْطِقْ) أَيْ: أَتَكَلَّمْ بِعُيُوبِهِ أَوْ لِلتَّمَلُّقِ بِهِ (أُطَلَّقْ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ ; لِأَنَّهُ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ

مُخَلَّقٌ وَقَلْبِي عَلَى حُبِّ الزَّوْجِ مُعَلَّقٌ (وَإِنْ أَسْكُتْ) أَيْ: عَنْ عُيُوبِهِ أَوْ غَضَبًا عَلَيْهِ أَوْ أَدَبًا مَعَهُ (أُعَلَّقْ) أَيْ: بَقِيتُ مُعَلَّقَةً لَا أَيِّمًا وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ، قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ أَيْ: كَالْمُعَلَّقَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ لَا يُسْتَقَرُّ بِأَحَدِهِمَا، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْعَشَنَّقُ: هُوَ الطَّوِيلُ الْمُمْتَدُّ الْقَامَةِ أَرَادَتْ أَنَّ لَهُ مَنْظَرًا بِلَا مَخْبَرٍ لِأَنَّ الطُّولَ فِي الْغَالِبِ دَلِيلُ السَّفَهِ، وَلِهَذَا ذَيَّلَتْهُ بِقَوْلِهَا إِنْ أَنْطِقْ إِلَخْ. لِأَنَّ مَا ذَكَرَتْهُ فِعْلُ السُّفَهَاءِ، وَمَنْ لَا تَمَاسُكَ عِنْدَهُ فِي مُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَفِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ بْنِ السِّكِّيتِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ: «عَلَى حَدِّ السِّنَانِ الْمُذَلَّقِ» بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيِ: الْمُحَدَّدِ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ كَثِيرٍ، وَوَجَلٍ كَبِيرٍ (قَالَتِ الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ) بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ مَكَّةُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَغْوَارِ، وَقِيلَ كُلُّ مَا نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ، فَلَا تِهَامَةً، وَلَا نَجْدِيَّةً ; لِأَنَّهَا فَوْقَ الْغَوْرِ دُونَ النَّجْدِ تُرِيدُ حُسْنَ خُلُقِ زَوْجِهَا مِنْ بَيْنِ الرِّجَالِ، وَسُهُولَةَ أَمْرِهِ فِي حَالِ كَمَالِ الِاعْتِدَالِ كَمَا بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا (لَا حَرٌّ) أَيْ: مُفْرِطٌ (وَلَا قَرٌّ) أَيْ: بَرْدٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَضَمِّهَا وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ لِحُسْنِ الِازْدِوَاجِ هُنَا خِلَافًا لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِالضَّمِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ كِنَايَتَانِ عَنْ نَوْعَيِ الْأَذَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أَيْ: وَالْبَرْدَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَنُكْتَةُ تَقْدِيمِ الْحَرِّ لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ أَكْثَرُ، وَتَضْعِيفَهُ أَكْبَرُ أَوْ لِوُجُودِ كَثْرَةِ الْحَرِّ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً تَبَاعَدَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ سَنَةً» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مِائَتَيْ سَنَةٍ» قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَكَلِمَةُ: «لَا» فِيهِ لِلْعَطْفِ أَوْ بِمَعْنَى لَيْسَ أَوْ بِمَعْنَى غَيْرَ، فَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ مَا بَعْدَهَا مَرْفُوعٌ وَمُنَوَّنٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِنَفْيِ الْجِنْسِ، فَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ، قُلْتُ: الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ إِطْلَاقِ الْعِبَارَةِ الْمُوَافِقِ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنْ يُقَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>