الْمِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: تَسِيلَانِ دُمُوعًا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
حَتَّى أَتَيْتُ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
وَذَرَفَتِ الْعَيْنُ سَالَ دَمْعُهَا مِنْ حَدِّ ضَرَبَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مَعْنَى الْآيَةِ كَيْفَ حَالُ النَّاسِ فِي يَوْمٍ تَحْضُرُ أُمَّةُ كُلِّ نَبِيٍّ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ شَهِيدًا بِمَا فَعَلُوا مِنْ قَبُولِهِمُ النَّبِيَّ أَوْ رَدِّهِمْ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكَ وَبِأُمَّتِكَ انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ عِنْدَ ذَوِي النُّهَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا بَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَثَّلَ لِنَفْسِهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشِدَّةِ الْحَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَى شَهَادَتِهِ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ، وَسُؤَالِهِ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحِقُّ لَهُ طُولُ الْبُكَاءِ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ بِعَمَلِهِمْ، وَعَمَلُهُمْ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَعْذِيبِهِمْ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَظْهَرُ مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُ لِلسُّرُورِ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّكَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فَكَلَامٌ مَرْدُودٌ لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عَلَى مَا قَالَهُ مِيرَكُ شَاهْ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ وَالْوَاعِظِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَحِلُّ اسْتِمَاعِ الْعَالِي لِقِرَاءَةِ السَّافِلِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَثْنَاءِ الْوَعْظِ، وَالنَّصِيحَةِ لِلصَّحَابَةِ، وَمُجَرَّدُ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْظِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى كَمَا أَفَادَهُ مِيرَكُ شَاهْ، نَعَمْ فِيهِ جَوَازُ أَمْرِ السَّامِعِ لِلْقَارِئِ بِقَطْعِ الْقِرَاءَةِ إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: ذَهَبَ نُورُ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، يُقَالُ كَسَفَتْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَانْكَسَفَتْ
بِمَعْنَى وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ انْكَسَفَ، وَكَذَا الْجَوْهَرِيُّ حَيْثُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَامَّةِ، وَالْحَدِيثُ يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَحَكَى كُسِفَتْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُقَالُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، وَانْكَسَفَا وَخَسَفَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا وَانْخَسَفَا، وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالْكَافِ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ بِالْخَاءِ ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا يَكُونَانِ لِذَهَابِ ضَوْئِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَهَابِ بَعْضِهِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخُسُوفُ فِي الْجَمْعِ، وَالْكُسُوفُ فِي الْبَعْضِ وَقِيلَ الْخُسُوفُ ذَهَابُ اللَّوْنِ، وَالْكُسُوفُ التَّغَيُّرُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكُسُوفَ لِلشَّمْسِ وَالْخُسُوفَ لِلْقَمَرِ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ عَكْسَهُ، وَغُلِّطَ لِثُبُوتِهِ بِالْخَاءِ لِلْقَمَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ، وَقِيلَ بِالْكَافِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبِالْخَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ (يَوْمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي حَتَّى لَمْ يَكَدْ) أَيْ: لَمْ يَقْرُبْ (يَرْكَعُ) بِلَا لَفْظَةِ (أَنْ) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ ; فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَرَأَ قَدْرَ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى (ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) كَذَلِكَ بِدُونِ أَنْ بِخِلَافِ الْبَاقِي مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ سَجَدَ) ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ (فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَالثَّوْرِيُّ سُمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَطْوِيلِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ إِلَّا فِي هَذَا، وَقَدْ نَقَلَ الْغَزَّالِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَرْكِ إِطَالَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الِاتِّفَاقَ الْمَذْهَبِيَّ فَلَا كَلَامَ، وَإِلَّا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute