للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَجَعَلَ يَنْفُخُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ فَمِهِ حَرْفَانِ (وَيَبْكِي) قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: وَجَعَلَ يَنْفُخُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْكِي وَهُوَ سَاجِدٌ وَذَلِكَ

فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وَيَقُولُ رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ) أَيْ: بِقَوْلِكَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ الْآيَةَ (رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أَيْ: بِقَوْلِكَ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَوْعُودِينَ مَعَ زِيَادَةٍ وَهِيَ اسْتِغْفَارُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْكُسُوفَ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى وُقُوعِ عَذَابٍ فَخَشِيَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُقُوعِهِ وَعُمُومِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ رَوَى الْبُخَارِيُّ فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.

وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ مِنْ ذِكْرِ وَعْدِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَقَامِ طَلَبِ دَفْعِ الْبَلَاءِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ الدُّعَاءِ بِعَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ مَعَ الْوَعْدِ بِهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ تَجْوِيزُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ مَنُوطٌ بِشَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ اخْتَلَّ (فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيِ: انْكَشَفَتْ وَرَوَى النَّسَائِيُّ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ وَرَوَى المص كَمَا تَرَى أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعًا.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صِلَاتِكُمْ.

وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَا قَالَ جَمْعٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَتَأْوِيلُ صَلَّى بِأَمْرٍ بَاطِلٍ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً فَيَرُدُّهُ قَوْلُ ابْنُ حِبَّانَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّهُ خُسِفَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فَصَلَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَكَانَتْ أَوَّلَ صَلَاةِ كُسُوفٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَزَمَ بِهِ مُغَلْطَايُ: وَالزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إِنَّ مُرَادَ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ نَقْلًا صَحِيحًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ فِي سِيرَتِهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعًا، وَفِي بَعْضِهَا سِتًّا فَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ جَائِزٌ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّ صِحَّةَ تَعَدُّدِ الْكُسُوفِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ لَا بِمُجَرَّدِ جَمْعِ الرِّوَايَاتِ يُقَالُ بِالتَّعَدُّدِ خُصُوصًا أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الزِّيَادَةَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ غَلَطًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَجْمَعُهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، وَإِذَا اتَّحَدَتِ الْقَضِيَّةُ بَطَلَتْ دَعْوَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ رِوَايَةِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهَا لَا تَخْلُو عَنْ عِلَّةٍ.

وَأَمَّا تَعَيُّنِ الْأَخْذِ بِالرَّاجِحِ، وَهُوَ رُكُوعَانِ عَلَى مَا ذَكَرُهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ ; فَإِنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالرُّكُوعَيْنِ يَنْبَغِي الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ صِلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سَاقِطَةٌ لِاعْتِبَارِهَا مَحْمُولَةً عَلَى وَهْمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا: إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَطَالَ الرُّكُوعَ رَفَعَ بَعْضُ الصُّفُوفِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَرَفَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاكِعًا رَكَعُوا فَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ فَمَنْ كَانَ خَلْفَ خَلْفِهِمْ ظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَكْثَرَ مِنْ رُكُوعٍ فَرَوَى عَلَى حَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الِاشْتِبَاهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّهَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَرْبَابِ السِّيَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي تَعْيِينِ سَنَةِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ السِّيرَةِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ فَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَمْ يَصِحَّ الْأَخِيرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ شُهِدَ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ.

(فَقَامَ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ (فَحَمِدَ اللَّهَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا مِنْ تَعْيِينِ لَفْظِ ح م د فِي الْخُطْبَةِ انْتَهَى وَفِي اسْتِدْلَالِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوِ الْمَعْنَى شَكَرَهُ عَلَى إِنْعَامَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى ذَاتِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>