فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ الْأَخِيرِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قُلْتُ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ بَلْ إِنَّمَا الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ هِيَ مَحَلُّ الِاتِّفَاقِ (فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ) لَا سِيَّمَا عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّنْزِيلِ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ) أَيْ: أَسْخَى بِبَذْلِ الْخَيْرِ (مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) حَيْثُ لَا الْتِفَاتَ لَهَا إِلَى أَشْيَاءَ تَمُرُّ عَلَيْهَا، وَالْمُرْسَلَةُ بِفَتْحِ السِّينِ بِمَعْنَى الْمُطْلَقَةِ فَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ
بِأَجْوَدَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى أَسْرَعَ أَوْ لِكَوْنِ الْمُرْسَلَةِ يَنْشَأُ عَنْهَا جُودٌ كَثِيرٌ قِيلَ يَعْنِي أَجْوَدَ مِنْهَا فِي عُمُومِ النَّفْعِ وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ، وَقِيلَ هِيَ الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْبُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ لِشُمُولِ رَوْحِهَا وَعُمُومِ نَفْعِهَا فَاللَّامُ فِي الرِّيحِ عَلَى الْأَوَّلِ لِلْجِنْسِ وَعَلَى الثَّانِي لِلْعَهْدِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ شِبْهُ نَشْرِ جُودِهِ بِالْخَيْرِ فِي الْعِبَادِ بِنَشْرِ الرِّيحِ الْقَطْرَ فِي الْبِلَادِ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَثَرَيْنِ فَأَحَدُهُمَا يُحْيِي الْقَلْبَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْآخَرُ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَمَا أَفَادَهُ الْكِرْمَانِيُّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّانِيَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ مُسَخَّرٌ لَهُ فَلِذَا قَالَ أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ أَنَّهُ وَقَعَ تَخْصِيصٌ عَلَى سَبِيلِ التَّرَقِّي فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ فَضَّلَ أَوَّلًا جُودَهُ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَثَانِيًا جُودَهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جُودِهِ فِي سَائِرِ الزَّمَانِ وَثَالِثًا عِنْدَ لِقَاءِ جِبْرِيلَ وَمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ أَجْوَدَ مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِإِتْيَانِ أَفْضَلِ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَنِ إِلَى أَفْضَلِ سَامِعٍ بِأَفْضَلِ كَلَامٍ مِنْ أَفْضَلِ مُتَكَلِّمٍ فِي أَفْضَلِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَفِيهِ تِبْيَانٌ إِلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الزَّمَانِ وَمُلَاقَاةَ صُلَحَاءِ الْإِخْوَانِ لَهُمَا مَزِيَّةٌ لِلْعِبَادَةِ وَالْإِحْسَانِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَالْإِتْقَانِ وَالْإِتْيَانِ، هَذَا، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أَعْقَلَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ يَعْنِي وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَقِيلَ اقْتِصَارُهُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ فَإِنَّهَا أُمَّهَاتُ الْأَخْلَاقِ إِذْ لَا يَخْلُو كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ ثَلَاثِ قُوًى: الْعَقْلِيَّةِ، وَكَمَالُهَا النُّطْقُ بِالْحِكْمَةِ، وَالْغَضَبِيَّةِ وَكَمَالُهَا الشَّجَاعَةُ، وَالشَّهَوِيَّةِ وَكَمَالُهَا الْجُودُ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ لَكِنَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ إِلَى آخِرِهِ وَبِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ أَيْضًا كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا.
وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ (أَنَا أَجْوَدُ بَنِي آدَمَ وَأَجْوَدُهُمْ بَعْدِي رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَنَشَرَ عِلْمَهُ وَرَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
، ثُمَّ كَانَ مِنْ جُودِهِ أَنَّهُ كَانَ يَبْذُلُ الْمَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ إِعْلَاءً لِدِينِهِ وَيُؤْثِرُ الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ فَيُعْطِي عَطَاءً يَعْجِزُ عَنْهُ الْمُلُوكُ وَالْأَغْنِيَاءُ وَيَعِيشُ فِي نَفْسِهِ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ فَرُبَّمَا كَانَ يَمُرُّ الشَّهْرَانِ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوقَدْ فِي بَيْتِهِ نَارٌ وَرُبَّمَا رَبَطَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ الشَّرِيفِ مِنَ الْجُوعِ وَمَعَ هَذَا كَانَ لَهُ قُوَّةٌ إِلَهِيَّةٌ فِي الْجِمَاعِ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَبَصِّرًا فِي أَمْرِهِ مَعَ كَثْرَةِ نِسَائِهِ وَكَذَا فِي الشَّجَاعَةِ حَتَّى صَرَعَ جَمْعًا، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَسْوَدِ الْجُمَحِيِّ وَكَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرِ وَيُجَاذِبُ أَطْرَافَهُ عَشَرَةٌ لِيَنْزِعُوهُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ فَيَتَفَرَّى الْجِلْدُ وَلَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ.
وَمِنْهُمْ رُكَانَةُ حَيْثُ صَرَعَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ بِشَرْطِ أَنَّهُ إِنْ صُرِعَ أَسْلَمَ، وَقَدْ أَتَاهُ سَبْيٌ فَشَكَتْ إِلَيْهِ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا تَلْقَاهُ مِنَ الرَّحَى وَالْخِدْمَةِ وَطَلَبَتْ مِنْهُ خَادِمًا يَكْفِهَا الْمُؤْنَةَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَسْتَعِينَ عِنْدَ نَوْمِهَا بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ مِنْ كُلٍّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ إِلَّا فِي الْأَخِيرِ فَتَزِيدُ وَاحِدًا تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ، وَقَالَ لَا أُعْطِيكِ وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوِي بُطُونُهُمْ مِنَ الْجُوعِ وَكَسَتْهُ امْرَأَةٌ بُرْدَةً فَلَبِسَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَسَأَلَهُ فِيهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَحِمَ اللَّهُ صَاحِبَ الْبُرْدَةِ حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ جُودِهِ بِالزُّبْدَةِ فِي قَوْلِهِ:
فَإِنَّ مِنْ جُودِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute