للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْعَجَبُ مِنِ ابْنِ حَجَرٍ حَيْثُ ذَكَرَ مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَسَكَتَ عَنْهُ.

(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَتْ فَاطِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) أَيْ: حِينَ بَلَغَهَا عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ (فَقَالَتْ) أَيْ: فَاطِمَةُ لِأَبِي بَكْرٍ (مَنْ يَرِثُكَ) أَيْ: بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (فَقَالَ: أَهْلِي) أَيْ: زَوْجَتِي (وَوَلَدِي) أَيْ: أَوْلَادِي مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (فَقَالَتْ: مَا لِي لَا أَرِثُ أَبِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: لَا نُورَثُ) أَيْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، وَفِي الْمُغْرِبِ كَسْرُ الرَّاءِ خَطَأُ رِوَايَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رِوَايَةً؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ دِرَايَةً إِذِ الْمَعْنَى لَا نَتْرُكُ مِيرَاثًا لِأَحَدٍ لِمَصِيرِهِ صَدَقَةً حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْأَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى فَفِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ، يُقَالُ: أَوْرَثَهُ مَالًا تَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ مِيرَكُ: أَصْلُ الْمَجْهُولِ لَا يُورَثُ مِنَّا فَحُذِفَ مِنْ وَاسْتَتَرَ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْفِعْلِ فَانْقَلَبَ الْفِعْلُ مِنَ الْغَائِبِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ أَيْ: تَرْتَعُ إِبِلُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى لَا أَبْرَحُ أَيْ: لَا يَبْرَحُ مَسِيرِي عَلَى وَجْهٍ فَلَمَّا حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ انْقَلَبَ الْفِعْلُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: وَهُوَ وَجْهٌ لَطِيفٌ انْتَهَى، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا جَعَلَهُ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَذْفَ، وَلَا تَحْوِيلَ، فَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ وَبِمِنْ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَيُقَالُ: وَرَّثَ أَبَاهُ مَالًا فَالْأَبُ وَالْمَالُ كِلَاهُمَا مَوْرُوثٌ وَقَوْلُ فَاطِمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرِثُكَ وَمَا لِيَ لَا أَرِثُ أَبِي مُوَافِقٌ لَهُ وَكَذَا قَوْلُهُ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ) وَلِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ.

وَأَمَّا مَا حُكِيَ فِي تَفْسِيرِ يَرِثُنِي وَيَرِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ يَرِثُ مَالِي.

فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ لَا نُورَثُ خَاصٌّ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ لِقَوْلِهِ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ

لَا نُورَثُ، فَالْمُرَادُ بِالْإِرْثِ الثَّابِتِ وِرَاثَةُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَبِالنَّفْيِ إِرْثُ الْمَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ يَرِثُنِي الْمَالُ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِ أَخْذُ الْمَالِ فِي الْحَيَاةِ كَمَا ارْتُكِبَ الْمَجَازُ فِي حَدِيثِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ إِنَّمَا يُوَرِّثُونَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَيَاةِ أَوْ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالَاتِ، وَحَاصِلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّا لَا نُورَثُ وَأَنَّ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَامَّةٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْوَرَثَةِ (وَلَكِنِّي أَعُولُ) أَيْ: أُنْفِقُ (عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُولُهُ وَأُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُ عَلَيْهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ كَمَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ لِمَا فِي الصِّحَاحِ عَالَ الرَّجُلُ عِيَالَهُ يَعُولُهُمْ قَاتَهُمْ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمْ وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَخُصَّ قَوْلَهُ أَعُولُ بِأَهْلِ دَاخِلِ بَيْتِهِ كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لَفْظُ الْعِيَالِ وَيُرَادُ بِقَوْلِهِ أُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ بَيْتِهِ فَانْدَفَعَ مَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ أَرَادَ دُخُولَ فَاطِمَةَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ أَوْلَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيْهِ انْتَهَى.، وَفِيهِ نَظَرٌ وَاضِحٌ إِذِ الْمَدَارُ هُنَا لَيْسَ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَلْ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى مَنْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْفِقُهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ نَفَقَةَ فَاطِمَةَ إِنَّمَا كَانَتْ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ بَلْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ الْإِرْثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ لَا يَتَمَنَّى بَعْضُ الْوَرَثَةِ مَوْتَهُ فَيَهْلِكَ وَأَنْ لَا يُظَنَّ بِهِمْ أَنَّهُمْ رَاغِبُونَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>