للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لهم فيما هو مختص بحق الله تعالى وبمشارتهم، وفيها فوائد: تطييب نفوسهم والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم حيث أهلهم للمشاورة وجعلهم خواص بعدما صدر منهم، وتشريع المشاورة لمن بعده والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي، فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به واختبار عقولهم فينزلهم منازلهم واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح (١).

وقال صاحب المنار (٢) في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) والذي يستفاد من نصوص القرآن الكريم أن الإسلام دين يحض على الشورى ويأمر بها، فقد جاءت إحدى سور القرآن الكريم باسم الشورى وعدت الشورى فيها من صفات المؤمنين.

كما أن الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أصحابه جاء من عند الله من أجل تثبيت هذه القاعدة، لا لأنه محتاج لما يملونه عليه وهو الذي لا ينطق عن الهوى، ولكن من أجل ترسيخ هذا المبدء العظيم وترسيخ هذه القاعدة الشرعية، والسنة النبوية حافلة بالتطبيقات العملية لمبدء المشاورة مما يدل على مشروعية الشورى وبيان ذلك فيما يلي: ...

فقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشورى في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في بداية زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة، فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين معه ويخص منهم أهل الرأي والمكانة والوجاهة بالاستشارة في الأمور فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش، وجاء في السيرة أنه استشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر وقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك فوالله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد (٣) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله خيراً ودعا له. ثم قال: أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار- وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوا بالعقبة قالوا: إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع به أنفسنا ونساءنا. فكان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصُبرٌ في الحرب صُدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله. فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. (٤)

وهذه الصورة من صور استشارته صلى الله عليه وآله وسلم وهو المسدد بالوحي الموعود بالنصر.

وفي صلح الحديبية: حينما مَنع رسولَ الله المشركون، خاطب أصحابه قائلاً: (أشيروا أيها الناس علي، أترون أن نميل على عيال وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ أم تريدون أن نؤم البيت فمن صدنا قاتلناه؟) فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد ولا حرباً، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فامضوا على اسم الله تعالى) (٥) .. الخ ما ورد في القصة التي انتهت بالمصالحة، وسنأتي على بقيتها عند بيان الشورى في الحرب، واكتفينا هنا بما سقناه لغرض بيان مشروعية الشورى، ومنه ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه


(١) - أبو حيان: أبو عبدالله محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الغرناطي الحياني (٦٥٤ - ٧٥٤هـ) رحمه الله: التفسير الكبير المسمى البحر المحيط وبهامشه تفسير النهر الماد من البحر لأبي حيان أيضاً، وكتاب الدر اللقيط من البحر المحيط لتلميذ أبي حيان الإمام تاج الدين أبي محمد أحمد بن عبد القادر بن أحمد بن مكتوم القيسي الحنفي النحوي (٦٨٢ - ٧٤٩هـ) الطبعة الثانية ١٤١١هـ - ١٩٩٠م دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان- ج ٣ ص ٩٩.
(٢) - السيد محمد رشيد رضا في تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار ٤/ ١٩٩ الطبعة الثانية - دار المعرفة - بيروت - لبنان.
(٣) - موضع في اليمن.
(٤) - السيرة النبوية لابن هشام الأنصاري ج٢ص٢٧٢.
(٥) - صحيح البخاري: باب غزوة الحديبية ج٤ص١٥٣١ حديث (٣٩٤٤).

<<  <   >  >>