للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَشَرَعَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ بِنَفْسِهِ وَلَهُ عِشْرُونَ سَنَةً فَسَمِعَ وَبَرَعَ فِي فُنُونِ الْحَدِيثِ؛ مَعَانِيهِ وَلُغَاتِهِ وَعِلَلِهِ وَصَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ وَرِجَالِهِ، فَلَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي مَعْنَاهُ، وَلا رَأَى هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ، مَعَ الصِّدْقِ وَالدِّيَانَةِ، وَحُسْنِ الْخَطِّ وَالأَخْلاقِ، وَالسَّمْتِ الْحَسَنِ، وَالْهَدْيِ الصَّالِحِ، وَالتَّصَوُّنِ، وَالْخَيْرِ، وَالاقْتِصَادِ فِي الْمَعِيشَةِ وَاللِّبَاسِ، وَالْمُلازَمَةِ لِلاشْتِغَالِ وَالسَّمَاعِ، مَعَ الْعَقْلِ التَّامِّ وَالرَّزَانَةِ وَالْفَهْمِ، وَصِحَّةِ الإِدْرَاكِ، وَلَهُ مشاركةٌ فِي أصولٍ ونحوٍ وتصريفٍ وَلُغَةٍ.

قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ فَتْحُ الدِّينِ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ فُضَلاءِ أَصْحَابِهِ عَنْ مَسَائِلَ مِنْهَا: وَمَنْ أَحْفَظُ مَنْ لَقِيتَ؟ فَقَالَ: وَوَجَدْتُ بِدِمَشْقَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ الإِمَامَ الْمُقَدَّمَ وَالْحَافِظَ الَّذِي فَاقَ مَنْ تَأَخَّرَ مِنْ أَقْرَانِهِ وَتَقَدَّمَ أَبَا الْحَجَّاجِ يُوسُفَ ابْنَ الزَّكِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمِزِّيَّ بَحْرَ هَذَا الْعِلْمِ الزَّاخِرِ وَحَبْرَهُ الَّذِي يَقُولُ مَنْ رَآهُ: كَمْ تَرَكَ الأَوَّلُ لِلآخِرِ، أَحْفَظَ النَّاسِ لِلتَّرَاجِمِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِالرُّوَاةِ مِنْ أَعَارِبَ وَأَعَاجِمَ، لا تَخُصُّ مَعْرِفَتُهُ مِصْرًا دُونَ مصرٍ، وَلا يَنْفَرِدُ عِلْمُهُ بِأَهْلِ عصرٍ دُونَ عصرٍ، مُعْتَمِدًا آثَارَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مُجْتَهِدًا فِيمَا نِيطَ بِهِ فِي حِفْظِ السُّنَّةِ مِنَ النَّصَائِحِ، مُعْرِضًا عَنِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، مُقْبِلا عَلَى طَرِيقَتِهِ الَّتِي أَرْبَى بِهَا عَلَى أَرْبَابِهَا، لا يُبَالِي مَا نَالَهُ مِنَ الأَزْلِ، وَلا يَخْلِطُ جِدَّهُ بشيءِ مِنَ الْهَزْلِ، وَضَعَ كِتَابَهُ ((تَهْذِيبَ الْكَمَالِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ)) وَضْعًا اسْتَخْرَجَ بِهِ الْعِلْمَ مِنْ مَعَادِنِهِ، وَاسْتَنْبَطَهُ مِنْ مَكَامِنِهِ، وَأَثْبَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي فِي أَمَاكِنِهِ، وَاسْتَوْلَى بِهِ عَلَى أَمَدِ الإِحْسَانِ، وَاحْتَوَى بِهِ مِنَ السَّبْقِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ فِي عَصْرِهِ إنسانٌ، وَلَمْ يَقَعْ لَهُ أَبْدَعُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ، وَلا أَبْرَعُ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ وَإِنْ كَانَ بِمَا يَضَعُهُ بَصِيرًا، وَبِالسَّبْقِ فِي كُلِّ مَا يَأْتِيهِ جَدِيرًا، وَهُوَ أَيْضًا فِي حِفْظِ اللُّغَةِ إمامٌ، وَلَهُ بِأَوْزَانِ الْقَرِيضِ معرفةٌ وإلمامٌ، فَكُنْتُ أَحْرِصُ عَلَى فَوَائِدِهِ لأُحْرِزَ مِنْهَا مَا أُحْرِزُ، وَأَسْتَفِيدَ مِنْ حَدِيثِهِ الذي إن طال لَمْ يُمْلَلْ، وَإِنْ أُوجَزَ وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يوجز.

<<  <   >  >>