إنه يخرج من عزلته، يذرع تلك الدروب الملتهبة في جبل النور، وهو يضيق بذلك المجهول الذي يشعر به معلقاً في نفسه، ولا حول له ولا قوة إزاءه؛ هاهو ذا مشرف على واد، يرى مخرجاً من مأساته في أعماق الهاوية، فيكاد يستسلم لفكرته المتغلبة عليه، ويخطو خطوة إلى الأمام، ولكن صوتاً أسرع من إيماءته يوقفه:((يا محمد، أنت رسول الله حقاً)) فيرفع رأسه ليرى الأفق مشعاً يتلألأ نوراً، فينقلب مذهولاً محيراً، دون أن تزايل الرؤية ناظريه. إنها في كل مكان .... زفي جميع الأركان .... فيرتعد منها فزعاً حتى يذوي إلى الأرض، وحين يفيق يعود إلى مكة، حيث يجد هنالك موضع سره العطوف، فتفاجَأ بمنظره المحزن وبحالته المحمومة، وهو الذي تراه دائماً مهتماً بنفسه، لا يغفل أي تفصيل في هندامه، هاهو ذا الآن بشعره الأشعث ووجهه الممتقع وملابسه المغبرة، ولكن خديجة الحانية تتغلب على جزعها وترعى زوجها، وبكلمات حانية رقيقة تدخل السلام إلى نفسه الذاهلة، فيأخذ طريقه إلى جبل النور.
وهاهو ذا الليل يخيم على عزلته في غار حراء، حتى إذا نام أحس بحركة في لا شعوره توقظه، إنه يشعر بحضور، وهو يلمح أمام عينيه الآن رجلاً متشحاً بلباسه الأبيض.
إن المجهول يقترب منه ثم يخاطبه قائلاً:
- "إقرأ" ..
- ما أنا بقارئ، قالها وهو يحاول الابتعاد عنه، والهرب من ذلك الذي يأخذه فيغطه حتى يبلغ منه الجهد، ثم يرسله قائلاً: