الحال، ولم يملك النبي إلا أن يسلم بالواقع، مثيراً بذلك ذهول صحابته، وأعيد الأسير، ولكنه أثناء الطريق غافل القوم وهرب منهم، وأوى إلى مكمن احتمى به، وبعد قليل انضم إليه كثير من إخوانه الذين هربوا مثله من الاضطهاد، وإذا بهؤلاء الخارجين على القانون قد نظموا على الطريق نهباً لقوافل مكة، فشلوا بذلك، وفي زمن قليل، تجارة المدينة القرشية كلها، حتى إنها رأت أخيراً أن تتوسل راغمة إلى النبي ليقبل المؤمنين الهاربين إلى معسكره. وجملة القول إن النبي قد ظفر بجميع امتيازات المعاهدة التي بطل منها الشرط الوحيد القاسي، أبطله المنتفعون به أنفسهم.
وهكذا بينما كان (النبي) يقود في سبيل الله (فيلق) الشهداء الذين اتبعوه، كان (القائد) يلقن أبطال ملحمته أسمى دروس الدبلوماسية والاستراتيجية الحربية، جاعلاً من المسلمين بهذا التوجيه المزدوج أعظم الفاتحين نزاهة، في الوقت الذي يعدون فيه أكمل المستنيرين في التاريخ.
لم يصنع الرسول نفوساً مؤمنة تقية فحسب، وإنما صنع عقولاً مستنيرة. وطرق إرادات فولاذية، إنه ينهي الشعور بالمسؤولية، ويشجع المبادأة في كل إنسان، ويعظم الفضيلة في أبسط صورها، وإن التأسي والمسارعة لهما رائد كل عضو في الجماعة، إذ يرى نفسه في سباق إلى الخير، بحسب أمر القرآن.
وعندما قاد النبي أصحابه إلى (تبوك) كانت نيته تبدو أبعد كثيراً من هذا الهدف المتواضع، فهو يعبر الصحراء العربية، في حَمارّة القيظ مضطراً رجاله العطاش، الذين أضناهم التعب، أن يستمروا في طريقهم دون أن يحطوا رحالهم عند (آبار مدين).
لم يكن هذا من الفن الحربي فحسب، ولكنه كان من التربية العالية، وإن هذا السير الذي لم يسمع بمثله في منظره الهائل ليكشف- زيادة على ذلك- عن