وانضم إليهم الحجاج الواردون من أنحاء الجزيرة إلى مكة، وهنالك أدى النبي شعائر الحج كلها، كأنه يريد تسجيلها إلى الأبد في ذاكرة معاصريه لتنتقل من بعدهم إلى أعقابهم، ثم إنه صعد عرفات على ظهر ناقته، وألقى خطبته الأخيرة، خطبة الوداع، واختير صحابي جهوري الصوت ليكررها للناس جملة جملة.
وفي غروب الشمس، بينما كان شبحه المحلق على قمة عرفات، يبدو مرتحلاً عن الدنيا، كأنه نهار يتلاشى في الأفق، كانت كلمات خطبته تصل الجموع كأنما تخلص إليها من صوت علوي، وكانت الجموع المتأثرة الصامتة تنصت إليه خاشعة متصدعة، وأخيراً صاح النبي:((ألا هل قد بلغت؟)) فأجابته الجموع الحاشدة، التي بلغت قمة الانفعال، في صوت واحد .. ((اللهم نعم)) (١).
وفي تلك اللحظة هبط الوحي، كأنما ليضع الخاتم على هذه الدعوة، فبركت الناقة- كما روي- على ركبتيها، وأرغت من الألم، وكانت خاتمة الوحي كما ورد في الخبر قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة ٥/ ٤].
وسيطلق على هذا الموسم في التاريخ (حجة الوداع).
والواقع أن أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله منذ الآن، حتى اليوم الأخير لن تكون إلا وداعاً لأهله ولأصحابه ولأمته، ولهذا العالم الذي خط له بعمقٍ مصائره.
فضلاً عن ذلك، فإن هذا اليوم الأخير قريب جداً، إذ حينما عاد إلى المدينة وافاه مرض الموت، الذي أنهى ملحمته العجيبة وختم دعوته المبلغة.
(١) هذه رواية البخاري، وفي المقريزي " قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت " وهي تقرب مما جاء بالأصل. (المترجم)