الرؤية تتكرر آمرة:{اقرأ}، هذا الحوار الغريب، والرؤية التي تسبقه وتصحبه وتلحقه، يشكلان الأساس الأول الضروري للنبي في نظر النقد الذاتي لحالته، فها هي ذي الظاهرة تحت سمعه وبصره، فهو يرى ويسمع.
ولكن في الوقت الذي تصير فيه الرؤية أكثر قرباً وأكثر تمثلاً، يصبح الكلام واضحاً تماماً، مهما احتوى المضمون الأول الصادر عنه من الغرابة، إذ هو أمر (القراءة) موجه إلى أمي.
فالنبي- من كل وجه- لا يبدو أنه قد استفاد توجيهاً محدداً لسلوكه المستقبل، فهو الآن يشاهد، ويشاهد فحسب.
لكن هذه المشاهدة الحسية الخالصة تترك فكره الموضوعي في حال حائرة مختلطة، فيعود مسرعاً إلى مكة، مضطرباً كما لم يكن، محطم الجسد كما لم يحدث، وهو يشعر بحاجته إلى أن يهدئ أهله من روعه، أو إلى أن يدثروه، فتدثره خديجة بعباءة، فيضع رأسه على الوسادة وينام، بينما تلاطفه بكلماتها المسلية.
ولكن إحساساً لا شعورياً يعاوده فيوقظه، وإذا برؤية حراء أمام عينيه تملي عليه أمراً واضحاً صريحاً {قُمْ فَأَنْذِرْ}[المدثر ٢/ ٧٤].
إن النبي سيدرك للمرة الأولى أهمية الظاهرة في إطار حياته الخاصة، وسيظهر بعد تأمل أثاره هذا الوحي اقتناعه الوليد، فيما يسر به إلى خديجة:" لقد أمرني جبريل أن أنذر الناس، فمنذا أدعو، ومنذا يستجيب؟ " وفي هذا التساؤل، نلمح الريبة التي ليست بالتحديد صدى ليقين لا يتزعزع، وهو اليقين الذي سنجده لديه عندما يتحقق حتى نهاية دعوته، والذي أثاره خاصة عندما فاتحه عمه أبو طالب في عرض قريش ليضع حداً لدعوته.
إنه لم يصل بعد إلى هذه الدرجة من اليقين، فاقتناعه ليس مطلقاً، وهو رهن بالظروف الخارجية للنجاح، الذي يبدو له غير محتمل في تلك اللحظة،