لم يعد لدى النبي أدنى شك أدبي أو عقلي، فإن الحكم الصادق هو الذي يهديه، وهذا النوع من الحكم لا يحول الشك المنهجي الذي عاناه، إلى شك مقصود لذاته. إذ أن الحقيقة العلوية للوحي تفرض نفسها فرضاً على العقل الوضعي. فكل ما يراه وما يسمعه وما يشعر به وما يفهمه، يتفق الآن مع حقيقة واضحة تماماً في ذهنه، جلية في عينيه هي: الحقيقة القرآنية.
وأكثر من ذلك، فإن إدراكه في هذا النطاق سيزداد ويتسع كلما تابع الوحي آياته البليغة، تلك التي تكون الكتاب الروحي الذي أحس به مطبوعاً في قلبه في غار حراء، وإن هذا الاقتناع العقلي ليزداد رسوخاً كما ازدادت الهوة عمقاً في عينيه بين ظنون (الإنسان) وما يجري على لسان (النبي).
وسيتابع الوحي نزوله بسور القرآن سورة سورة، فتتزاحم في وعيه الحقائق التاريخية والكونية والاجتماعية، التي لم يسبق أن سجلت في صفحة معارفه، بل حتى في معارف عصره، ومناحي اهتمامه.
هذه الحقائق ليست مجرد تعميمات غامضة، ولكنها معلومات محددة تضم تفاصيل هامة عن تاريخ الوحدانية.
فقصة يوسف المفصلة، مثلاً، أو التاريخ المفصل لهجرة بني إسرائيل لا يمكن اعتبارهما مجرد اتفاق عارض، بل يجب حتما أن يأخذا لدى (محمد) - صلى الله عليه وسلم - صفة الوحي العلوية.
ولنا أن نتساءل كيف استطاع أن يدرك الاتفاق العجيب لهذا الوحي مع ما ورد من التفاصيل التاريخية في التوراة ... ؟