لقد كان يكفي محمداً لاقتناعه الشخصي أن يلاحظ أن مثل هذا التفصيل غير المتوقع، والذي غاب عن الأعين في طيات التاريخ ليس بذي طابع شخصي، دون أن يستخدم فعلاً أساساً للموازنة، حتى يحكم على الفكرة الموحى بها، ومدى تصديقها لما ورد في التوراة.
فكان عليه أن يلاحظ أن أخبار الوحي تنزل عليه من مصدر ما، فمن هو هذا المصدر؟ صار إذن من الضروري أن يحتل هذا السؤال مكانه في العملية العقلية التي يستقي منها النبي إدراكه الثابت، واقتناعه الشخصي. ولقد جاءت إجابته عن هذا السؤال بعد مقابلة باطنية بين فكرته الشخصية وبين الحقيقة المنزلة، وكان بحسبه أن يعقد هذه المقابلة لكي يحل مصدر هذه الأخبار المنزلة، خارج ذاته وخارج مجتمعه، فما كان لديه أي التباس في هذا، فخارج معلوماته لم يكن يستطيع أن يجد الحقيقة القرآنية عند أي مصدر إنساني.
و (محمد) صادق مع قومه، وهو قبل ذلك صادق مع نفسه، فدراسته الواعية لحالته الغريبة يجب أن تكون نوعاً من الدرس الباطني القرآني، لتقضي هذه الدراسة على أي شك يخايل عينيه، ما دام يمكنه أن يجريها على أساس منهجين مختلفين، الأول: ذاتي محض يقتصر على ملاحظته وجود الوحي خارج الإطار الشخصي، والثاني: موضوعي يقوم على الموازنة الواقعية بين الوحي المنزَّل وما ورد من التفاصيل المحددة في كتب اليهود والنصارى مثلاً.
وكأنما كان الوحي- أحياناً- يعلمه هذا المنهج الأخير الموضوعي عندما لا يكون الأمر أمر اقتناعه هو- لأنه اقتنع منذ زمن طويل- بل أمر تأسيس وتربية للذات المحمدية، ولا سيما عندما يجادل المشركين عن عقيدته، أو وفود النصارى الآتية من أطراف الجزيرة، كوفد نجران الذي أتاه ليناقش معه عقيدة التثليث.