وثانيهما: أنه ربما كان قد تعلم أو عُلِّم، ثم استخدم لا شعورياً المادة التي حصلت في يده. والفرض الأول غير محتمل؛ إذا ما اعتبرنا النتيجة العامة عن النبوة، والنتيجة الخاصة عن الذات المحمدية، وهي إخلاص هذه الذات واقتناعها الشخصي، وهي المعاني التي أنهينا بها مناقشة الفصول السابقة.
أما الافتراض الثاني، فإن الاعتبارات نفسها عن الذات المحمدية تلزمنا بأن نخصها بمغزى نفسي أكثر تحديداً، فبناء على ما أثبتناه في القياس الأول نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نعد تعلم محمد الشخصي المباشر كأنه (حالة إدراك منسية لدى التعلم نفسه)، والأمر في هذه الحالة يتعلق- في جملته- بظاهرة نسيان جد غريبة، علماً بأن جميع تفاصيل حياة النبي الخاصة والعامة تشهد عنده بمعادلة شخصية كاملة. وخاصة ذاكرته التي كانت خارقة لكل اعتبار، حتى في حالة التلقي التي كان يعانيها خلال لحظات الوحي، لقد كانت ذاكرته تعمل كما رأينا في المقياس الأول وكما سنرى فيما بعد في فصل (المناقضات)، وقد كان هو في الواقع الحافظ الأول للسور، التي كان يرتلها عن ظهر قلب حتى لحظاته الأخيرة. ولقد قُدِّم إليه ذات يوم لفداء مكي أسير لدى المسلمين، قلادة كانت تتحلى بها خديجة، فتعرف عليها في الحال وقد دمعت عيناه، ثم إنه أطلق ساح المشرك الذي كان صهره، وأمره أن يرد القلادة إلى ابنته.
هذه الذاكرة السمعية البصرية الخارقة التي عُرف بها النبي والقائد لا يمكن أن تتفق مع مرض الذاكرة بالنسيان، النسيان الذي يجب أن يعد هنا جزئياً، لأنه لا يشمل كل الماضي الشعوري للنبي، بل يقتصر على تذكر مصدر تعلمه الكتب، وطريقته في أن يستخدمها لا شعورياً. وربما كان هذا النسيان أغرب حين نجد النبي يتذكر موضوع هذا التعلم تذكراً كاملاً، كسورة يوسف مثلاً (١).
(١) سورة يوسف مكية كلها والمفهوم من كلام المفسرين أنها نزلت جملة واحدة على ما ذكره الألوسي (ج١٢ ص ١٧) قال: "وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه =