العنان إلى مدى معين، حتى يحفظ بالتكرار ما تفجر في مجال عقله، فأثاره جرسه وأيقظه.
والآية تهدف إذن إلى مصادرة حريته في استخدام ذاكرته، حيث تنحصر حركتها في هذا التكرار المنهي عنه، وبذلك لا تتجاهل الآية حرية اختيار النبي، وإرادته أن يدرب ذاكرته فحسب، بل تتجاهل أيضا القانون النفسي لوظيفة التذكر نفسها. وهكذا نلاحظ مناقضة مزدوجة بين الظاهرة القرآنية وبين الذات المحمدية. هذه المناقضة المزدوجة لإرادة النبي، ولقانون وظيفة التذكر، تثبت بوجه خاص تفرد ظاهرة ذات مجال مطلق، مستقل عن العوامل النفسية والزمنية، وبهذا تؤكد خاصتي السمو والإطلاق للظاهرة القرآنية.
والمناقضة الثانية نقتبسها من حياة النبي الخاصة، فلقد سجلت أحداث هذه الحياة- كما نعلم- المراحل الرئيسية للتشريع القرآني، ولا عجب، بعد أن رأينا ما لهذا الارتباط بين أحداث حياة (الرجل) وبين قانون السماء من قيمة تربوية، أما الذين يعجبون فإن عليهم أن يذكروا أن قانوناً تمليه السماء لغير أهل الأرض يمكن أن يكون مراعياً لعوائد الملائكة سكان السماء، أما إذا أنزل من أجل البشر، فربما لم يكن له معنى بالنسبة لهم لو لم يكن أساس تقنينه الحالات المادية المنتزعة من حياتهم اليومية. وهذه حالة من تلك الحالات مأخوذة من حياة النبي نفسه، وقد كانت مناسبة لنزول الوحي ببعض المبادئ القانونية فيما يتعلق بالشهادة بوصفها دليلاً قانونياً.
والحادثة التي نبحثها رواها مؤرخو السيرة تحت عنوان (حادثة الإفك)(١)
(١) أورد المؤلف في الهامش تلخيصاً لحديث هذه القصة، وقد رأينا الاستغناء عن ترجمة هذا الموجز، إذ أن القصة بكاملها مروية في جميع كتب الحديث. وقد رواها البخاري تحت عنوان (باب حديث الإفك) عن طريق عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها. (المترجم)