للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمثال الثاني قوله تعالى:

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور ٤٠/ ٢٤]

فهذا المجاز يترجم على عكس سابقه عن صورة لا علاقة لها بالوسط الجغرافي للقرآن، بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي، وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يلفها الضباب، ولا يمكن المرء أن يتصورها إلا في النواحي كثيفة الضباب في الدنيا الجديدة أو في (إيسلندا). فلو افترضنا أن النبي رأى في شبابه منظر البحر فلن يعدو الأمر شواطئ البحر الأحمر أو الأبيض. ومع تسليمنا بهذا الفرض فلسنا ندري كيف كان يمكن أن يرى الصورة المظلمة التي صورتها الآية المذكورة؟. وفي الآية فضلاً عن الوصف الخارجي الذي يعرض المجاز المذكور سطر خاص بل سطران: أولهما: الإشارة الشفافة إلى تراكب الأمواج. والثاني: هو الإشارة إلى الظلمات المتكاثفة في أعماق البحار، وهاتان العبارتان تستلزمان معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحر، وهي معرفة لم تتح للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية. وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كأنما يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء واختفائه على عمق معين في الماء، وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا المجاز إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قارية.

***

<<  <   >  >>