للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى إثبات صحة الشعر الجاهلي مناهج لا شك في صدقها وسلامتها، بلا غش في الاستدلال وبلا خداع في التطبيق؛ وبلا مراء في الذي يسلم به صريح العقل وصريح النقل، إلا أنهم لم يملكوا بعد من الوسائل ما يتيح لهم أن يبلغوا بحقهم ما بلغ أولئك بباطلهم.

وقد ابتليت أنا بمحنة (الشعر الجاهلي)، عندما ذرَّ قرن الفتنة أيام كنت طالباً في الجامعة؛ ودارت بي الأيام حتى انتهيت إلى ضرب آخر من الاستدلال على صحة (الشعر الجاهلي)؛ لا عن طريق روايته وحسب، بل عن طريق أخرى هي ألصق بأمر (إعجاز القرآن). فإني محصت ما محصت من الشعر الجاهلي، حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة صحته وثبوته. إذ تبينت فيه قدرة خارقة على (البيان)، وتكشف لي عن روائع كثيرة لا تُحَد، وإذا هو علم فريد منصوب لا في أدب العربية وحدها، بل في آداب الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام. وهذا الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب أنفسهم، هو وحده دليل كاف على صحته وثبوته.

ولقد شغلني (إعجاز القرآن) كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضاً هذا (الشعر الجاهلي)، وشغلني أصحابه فأدى بي طول الاختبار والامتحان والمدارسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت إليه، حتى صار عندي دليلاً كافياً على صحته وثبوته. فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم، رأيتهم في هذا الشعر أحياناً يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله، وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق، وغاضبهم تربدّ سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه، والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم، فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون؛ كل

<<  <   >  >>