صفوف عباد الرحمن، وعلا منابرها الدعاة إلى الحق، وتحلقت الحلق في كل مسجد، وتداعى إليها طلاب العلم، فطائفة تتلقى القرآن من قرائه، وطائفة تدرس تفسير آياته، وطائفة تروي حديث رسول الله عن حفاظه، وطائفة تأخذ العربية عن شيوخها، وطائفة تتلقف شعر الجاهلية والإسلام عن رواته، طوائف بعد طوائف في أنحاء المساجد المتدانية، طوائف من كل لون وجنس ولسان، كلهم طالب علم، وكلهم يتنقل من مجلس شيخ إلى مجلس شيخ آخر، فكل ذلك علم لا يستغني عنه مسلم تال للقرآن. لا بل حتى أسواقهم قام فيها الشعراء ينشدون شعرهم، أو يتنافرون به ويتهاجون، والرواة تحفظ، والناس يقبلون ينصتون، وينقلبون يتجادلون، وعجَّت نواحي الأرض بالقرآن وباللسان العربي، لا فرق بين ديار العجم كانت وديار العرب.
وبعد دهر نبتت نابتة الشيطان في أهل كل دين، وجاؤوا بالمراء والجدل، وباللدد والخصام، وشققوا الكلام بالرأي والهوى، فنشأت بوادر من النظر في كل علم، وعندئذ نجم الخلاف، وانتهى الخلاف إلى الجرأة، وأفضت الجرأة يوماً إلى رجل في أواخر دولة بني أمية يقال له (الجعد بن درهم)، وكان شيطاناً خبيث المذهب، تلقى مذهبه عن رجل من أبناء اليهود، يقال له:(طالوت)، فكذب القرآن في اتخاذ إبراهيم خليلاً، وفي تكليم موسى، إلى هذا وشبهه، وكان من قوله: إن فصاحة القرآن غير معجزة، وإن الناس قادرون على مثلها وأحسن منها!! .. فضحى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، في نحو سنة ١٢٤ من الهجرة.
وكلام (الجعد) كما ترى، استطالة رجل جريء اللسان خبيث النبت، بلا حجة من تاريخ أو عقل.
ولم تكد دولة بني العباس ترسي قواعدها حتى دخلت بعض العقول إلى فحص (إعجاز القرآن)، من باب غير باب السفه والاستطالة، فقام بالأمر كهف