إن لكل شعب هواية يصرف إليها مواهبه الخلاقة، طبقاً لعبقريته ومزاجه. فالفراعنة مثلاً كان لهم اهتمام بفنون العمارة والرياضيات، يدلنا عليه ما بقي بين أيدينا من آثارهم العظيهة؛ تلك الآثار التي أثارت اهتمام رجال العلم، مثل الأب (مورو) الذي خصص أحد كتبه لدراسة تصيم الهرم الأكبر، وما يتضن من نظريات هندسية غريبة، وخصائص رياضية وميكانيكية عجيبة.
كما كان اليونان مغرمين بصور الجمال، على ما أبدعه فن (فيدياس)، وبآيات المنطق والحكمة على ما جادت به عبقرية (سقراط).
أما العرب في الجاهلية، فقد كانت هوايتهم في لغتهم، فلم يقتصروا على استخدامها في ضرورات الحياة اليومية، شأن الشعوب الأخرى، وإنما كان العربي يفتن في استخدام لغته، فينحت منها صوراً بيانية لا تقل جمالاً مما كان ينحته (فيدياس) في المرمر، وما كانت ترسمه ريشة (ليونار دوفانسي) في لوحاته المعلقة في متاحف العالم الكبرى.
فالشعر العربي كما قال أخي الأستاذ محمود شاكر في مقدمة هذا الكتاب:
((كان حين أنزل الله القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - نوراً يضيء ظمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكوف الوثني للصنم، ويسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط، فقد كانوا عبدة البيان، قبل أن يكونوا عبدة الأوثان، وقد سمعنا من استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط منهم من استخف ببيانهم)).
هذه صورة الظروف النفسية التي نزل فيها القرآن، فكان لإعجازه أن ينفذ إلى الأرواح- بصفة عامة في زمن النزول- على هذا السبيل، أي بما ركب في الفطرة العربية من ذوق بياني.
ثم تغيرت هذه الظروف مع تطورات التاريخ الإسلامي، وفاض طوفان العلوم في أواخر عهد بني أمية والعهد العباسي. فصار إدراك جانب الإعجاز في