للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألف ميل شمالي قرطبة فلا نستطيع القول إلا أن حملته الرائعة تلك لم تكن أكثر من غارة سريعة طويلة أتت بمغانم وفيرة ... ومهما يكن الأمر فإن عنبسة بن سحيم الكلبي ينفرد بين الفاتحين المسلمين بهذا الفخر، فخر الوصول برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربية، ولم يدرك هذا الشأو بعد ذلك فاتح مسلم آخر" (٢٥).

ونلاحظ على حملة عنبسة أيضاً أنها بعد أن فتحت قرقشونة لم تستمر بالاتجاه إلى طولوشة في مقاطعة أكيتانية، بل عدلت عن ذلك إلى إقليم بروفانس وبرغندية. ويرجع السبب في ذلك كما يرى بعض الكتّاب المحدثين إلى قيام علاقات صداقة بين المسلمين وبين الدوق أودو، دوق اكيتانية، الذي كان في ذلك الوقت يخشى بأس الدولة الميروفنجية، وحاجب ملكها شارل مارتل، صاحب الأمر في هذه الدولة آنذاك. وكان هذا الأخير يَنْفُس على الدوق أودو مكانته ويتمنى إزالته عن ولاية أكيتانية. وتربط المصادر اللاتينية صداقة الدوق أودو بحاكم شرطانية، منوسة البربري، فتذهب إلى أن الدوق أودو صاهر منوسة وزوَّجه من إحدى بناته لكي يأمنه على بلاده (٢٦). ولهذا فعند قدوم المسلمين بقيادة عنبسة لم يسر لحربهم كما فعل أيام السمح بن مالك، ولم يحاول أن يهاجمهم من الخلف بعد أن تركوا بلاده، بل سهل لهم السير في مقاطعة برغندية، فساروا حتى قاربوا نهر السين. ولهذا فقد انصرف العرب عن بلاده، لأنه كان حليفهم (٢٧). ومن الجدير بالذكر أن هناك من الكتاب الآخرين من ينفي وقوع مثل هذه الصلات بين العرب والمسلمين وبين الدوق أودو، وينفون أيضاً تعاون منوسة مع هذا الدوق، وعدائه لبعض الولاة من أمثال عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي. بل إنهم ينكرون أصلاً وجود شخص باسم منوسة، معتمدين في ذلك على أن هذا الاسم ليس لشخص، إنما قد يكون تحريفاً لاسم مكان (٢٨). ولا تخفى، بطبيعة الحال، الدوافع النبيلة التي تحمل هؤلاء الباحثين على هذا الرأي، وهي محاولة التصدي لبعض المؤرخين المسيحيين المتعصبين والمستشرقين الذين استغلوا هذه القصة أكثر مما يجب للنيل من المسلمين وتشويه فتوحاتهم في جنوب فرنسا. ومع هذا يبدو من الصعب إنكار وجود شخصية منوسة، الذي ورد اسمه ودوره صراحة في حولية سنة ٧٥٤ اللاتينية أو ما


(٢٥) فجر الأندلس، ص ٢٤٨.
(٢٦) The Chronicle of ٧٥٤, p. ١٥٥ (no ٥٨) .
(٢٧) انظر: فجر الأندلس، ص ٢٥٣.
(٢٨) الحجي، التاريخ الأندلسي، ص ١٩٢ - ١٩٣؛ خليل السامرائي، المرجع السابق، ص ١٠٧ - ١٠٨.

<<  <   >  >>