للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إلى من يقبل حديثه، ومن يُرَدُّ ومن يتوقف فيه، وأنهم حصروا الوَضَّاعِينَ في فئات، منهم الزاهدون والجَهَلة الذين حملهم جهلُهُم على وضع الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتساباً وحُسْن نية ... وقد كشف العلماء أمرهم، وبيَّنوا حقيقتهم، حتى لا يخدع الناس بمظاهر صلاحهم عن غفلة قلوبهم، ومن ذلك ما ذكره هذا المستشرق من قول أبي عاصم: «مَا رَأَيْتُ الصَّالِحَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ». فإنه واضح أنه ليس المراد منه الصلاح الحقيقي الذي يتمثل في صلاح العلماء وأئمة الدين وحُفاظ الحديث، بل هو ذلك الصلاح الذي تحدثنا عنه، وإلا لكان يجب أن يكون سعيد بن المسيب وعروة والشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة والحسن والزُّهْرِي من أكذب الناس في الحديث، ومن يقول هذا؟ ويدلك على ذلك قول يحيى بن سعيد القطان الذي قال بمثل ما قال أبو عاصم قد ذكره مسلم في " مقدمة صحيحه " وهو يتحدث عن وجوب الاحتياط في قبول الأخبار وعدم الأخذ مِمَّنْ كثر غلطه وساءت عقيدته وعرفت غفلته، كهؤلاء الصالحين، ثم قال مسلم بعد ما ذكر قول يحيى بن سعيد القطان: أي يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدونه. فهل ترى مسلماً يريد بالصالحين هنا أئمة الحديث الثقات المُتَثَبِّتِينَ فيكونوا كَذَّابِينَ؟ أم يُخرج هؤلاء المُحَدِّثِين الثقات عن حظيرة الصلاح فيكون البخاري وأحمد والأوزاعي ومسلم نفسه غير صالحين؟ واسمع تفسيراً آخر للصالحين غير ما ذكرناه من قبل. قال الشعراني في " العهود الكبرى ": وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا - رَحِمَهُ اللهُ - يقول: «إنما قال بعض المُحَدِّثِين: «أكذب الناس الصالحون» لغلبة سلامة بواطنهم، فيظنون بالناس الخير، وأنهم لا يكذبون على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمُرادُهم بالصالحين المُتَعَبِّدُونَ الذين لا غوص لهم في علم البلاغة فلا يفرقون بين كلام النبوة وغيره، بخلاف العارفين، فإنهم لا يخفى عليهم ذلك (١).


(١) " قواعد التحديث " للقاسمي: ص ١٤٧.

<<  <   >  >>