للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على الميم الحرف الشفوي، ويحسن بنا أن نقف عند دلائل مفردات الجماد عند بدوي، فما يمتاز به هذا الباحث هو النّظر الدقيق في الفروق لدى استعمال هذا الجماد أو ذاك، مما يفيد الإيحاء الأكبر، فقد نظر إلى قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «١»، وقال: «فمثّلهم القرآن بحال من حصرتهم السماء بصيّب، وفي هذه الكلمة ما يوحي بقوة المطر وشدة بطشه، فهو ليس بغيث ينقذ الأرض من ظمئها، ولكنه مطر يصيبها ويؤثّر فيها، وفي النص على أنه من السّماء ما يوحي بهذا العلوّ الشاهق، ينزل منه هذا المطر الدافق، فأيّ رعب ينبعث في القلوب من جرّائه» «٢».

وهو يتملّى جمال الفرق بين تشبيه الموج بالجبال في مكان، وبالظّلل في مكان آخر، ويبحث في الموقف الشعوري الموائم بكلّ منهما، يقول: «ومن خصائص التشبيه القرآني المقدرة الفائقة في اختيار ألفاظه الدقيقة المصوّرة الموحية، تجد ذلك في كل تشبيه قرآني، فقد شبّه القرآن الموج في موضعين فقال: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ «٣»، وقال: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «٤»، وسرّ هذا التنوع أنّ الهدف في الآية الأولى يرمي إلى تصوير الموج عاليا ضخما، فتستطيع كلمة الجبال أن توحي به إلى النفس، مع أن السفينة محوطة بالعناية الإلهية، فليست في خطر الغرق، أما الآية الثانية فتصف قوما يذكرون الله عند الشّدّة وينسونه لدى الرّخاء، ألا ترى أن الموج يكون أشدّ إرهابا، وأقوى تخويفا إذا هو ارتفع حتى ظلّل الرءوس» «٥»، والمقصود في الآية الأولى نوح عليه السلام وقومه.

فأصحاب السفينة في الآية الأولى هم مؤمنون وهم في الآية الثانية جاحدون لنعمة الخالق، وكلمة «ظلل» توحي بالقرب والتّماس، مما يرعب القلوب أكثر من وصف الموج بالجبال التي قصد فيها ضخامة الأمواج فقط،


(١) سورة البقرة، الآية: ١٩.
(٢) بدوي، أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ ٣٣.
(٣) سورة هود، الآية: ٤٢.
(٤) سورة لقمان، الآية: ٣٢.
(٥) بدوي، أحمد، من بلاغة القرآن، ص/ ١٩٨، وانظر عتر، حسن ضياء الدين، ١٩٧٥، بيّنات المعجزة الخالدة، ط/ ١، دار النصر، حلب، ص/ ٢٨٠.

<<  <   >  >>